[align=center]حوار مع الدنيا
انتقلت من مكان الى مكان هروبًا من الدنيا، وحاولت أن ابتعد عنها فلم استطع، وغيّرت وظيفتي، وغيّرت منزلي، وغيّرت مجتمعي، وغيّرت بلدي، وغيّرت كل شيء في حياتي، وما زالت الدنيا في قلبي وهي محل فتنتي، وتبيّن لي ان صفاتها وعلاماتها لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فهي هي كما هي
وكانت امنيتي ان تتمثل الدنيا امامي حتى اصارحها فأقتلها، فأكون قد تخلصت منها واخرجتها من قلبي
وبينما كنت اجلس وحدي، تمثلت الدنيا امامي!!
قالت الدنيا: ماذا تريد يا عبد الله؟ ها انا ذا امامك.
قلت وانا متأسف: انه ليحزنني انني احبك، واهواك، ولا استطيع ان اتركك.
الدنـــيا: ان هذا لشعور طبيعي، ومن ادّعى انه لا يحبني فهو كاذب، فانا من خلق الله تعالى، وانا محبوبة الى النفوس.
عبد الله: وكيف تقولين ان هذا شعور طبيعي.
الدنــيا: نعم، انه لشعور طبيعي، ولكن الخطأ الذي يقع فيه اكثر الناس انهم يقدمون امري الى امر الآخره.
عبد الله: وهل انا منهم؟
الدنــيا: نعم، ولكن فيك صفات طيبة.
عبد الله: وكيف اعرف حقيقتك؟!
الدنــيا: من قول رسول الله"الدنيا حلوة خضرة"، فقد وصفني النبي بأني حلوة خضرة، ولكن بالنسبة للمؤمن سجن له لقوله عليه الصلاة والسلام :"الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر" .
عبد الله: ولكن اعرف بعض المؤمنين يعيشون في نعيم ورفاهية!!
الدنــيا: ليس المراد بالسجن هو السجن الحديدي - الذي تفهمه - وانما هو التقييد بما امر الله، وما السجن الا قيد، ولهذا قال محمد بن السماك - رحمه الله:"يا ابن آدم انت في حبس منذ كنت، انت محبوس في الصلب، ثم في البطن، ثم في القماط (شد كشد الصبي في المهد اذا ضم اعضاؤه الى جسده ثم لف عليه القماط)، ثم في المكتب، ثم يصير محبوسا في الكد على العيال، فاطلب لنفسك الراحه بعد الموت حتى لا تكون في الحبس ايضًا".
عبد الله: الله انه لمعنى ادبي جميل. لقد فهمت الآن . ولكن ما سبب تسميتك بالدنيا؟
الدنــيا: لو علم الناس معنى اسمي لما فتنتهم زينتي. إنّ اسمي له معنيان
أ: من الدنو: اي قريبة الزوال والانتهاء.
ب: ومن الدناءة: اي القبح اذا ما قارنتني بالآخرة.
عبد الله: وكيف اتعامل معك حتى لا افتن ؟!.
الدنــيا: ان هذا لسؤال خطير، تجعلني ابوح بسر من اسراري. لاني اصطاد الناس احيانا بالاموال واحيانا بالنساء واحيانا بالمناصب وكل ذلك من زينتي، والزينة من صفاتها انها مؤقته، وهل رأيت يومًا زينة عرس دائمة؟ او زينة عروس دائمة؟!
عبد الله (بشدة): يا دنيا اجيبي عن سؤالي ولا تبتعد، فكيف اتعامل معك ولا افتن؟
الدنــيا: مهلاً يا صاحبي فلا تتعجّل علىّ.
ثم قالت: اهم صفة ينبغي ان تتوفر في الذي يتعامل معي هي "اليقظة والفطانة" .
فأنا حاضرة الملذات، وحاضرة الشهوات، فمن جعلني معبراً للآخرة فهو الناجي، ومن جعلني مستقراً فهو الخاسر، فأنا دار بلاغ ولست دار متاع.
وقد قال الحسن البصري - رحمه الله:
اياكم وما شغل الدنيا، فان الدنيا كثيرة الاشغال!! لا يفتح رجل على نفسه باب شغل الا اوشك ذلك الباب ان يفتح عليه عشرة ابواب.
عبد الله: اذن سوف اعتزلك تماماً حتى انجو.
الدنــيا: ليس هذا الذي اردت. ولكن ينبغي ان تتعامل معي بحذر، وكلما فتح لك باب من الدنيا افتح انت باباً للآخرة، حتى لا تنسى نصيبك منها، وتعيش متزناً كما آمرك الله تعالى.
عبد الله:ولكن اخاف.
الدنــيا: لا تخف وافهم كيف تتعامل مع زينتي، ولا تكن كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه.
عبد الله: وماذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه؟
الدنــيا: قال (لا الفين احدكم جيفة ليل، قطرب نهار).
عبد الله: وما معنى قطرب نهار؟
الدنــيا: اي هي الدوبية التي تجلس هنا ساعة وهنا ساعة فلا تستريح نهارها سعيًا.. وهكذا بعض الناس يتحرك في امر دنياه ليل نهار، ولا يفكر في امر الآخرة.
"فابن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة" .
عبد الله: وبماذا توصيني؟
الدنــيا: اوصيك بتذكر قول الله تعالى دائمًا: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيءٍ مقتدرًا)"سورة الكهف45" وان كنت تحذرني مرة فاحذرني بعد اليوم الف مرة
عبد الله: لا اظن انك ستفتنيني بعد ما تصارحنا؟!
الدنــيا: "قالوا للغراب ما لك تسرق الصابون؟
قال: الأذى طبعي".
وانا اقول لك ان الفتنة طبعي، فاحذر ان تكون من عشاق الدنيا.
واحذر ان تكون جيفة ليل قطرب نهار.
ثم اختفت الدنيا فجأة .
فأخذ عبد الله ينادي .. يا دنيا.. يا دنيا.. فلم يجبه احد.. ثم طأطأ رأسه
وقال: الحمد لله الذي وفقني لفهم حقيقة الدنيا ثم انشد
:
اذا كنت اعلم علمًا يقيناً..بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها..واجعلها في صلاح وطاعة[/align]