عاشت المرأة حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشتها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها فتبثها ذات نفسها، وتستبثها سريرة قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عند رضاهما، وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج، رأت هي أن الزواج أساس الحب، فقلتم لها إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها وتمردت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة، مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها.
قلتم لها: لابدّ لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسه أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم.
وقلتم لها إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج.
وقلتم لها أن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات القديم، فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت.
وقلتم لها لابدّ لكِ أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شؤون بيتك، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شؤون بيتها.
وقلتم لها إنا لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا، فكان لابدّ لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومسارح أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس أعمالكم في حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات والمستهترات والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن، فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم تقدمتْ إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما يعرض النخاس أمته في سوق الرقيق، فأعرضتهم عنها، ونبوتم بها، وقلتم لها إنا لا نتزوج النساء العاهرات كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة، وقد أباها الخليع، وترفع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت.
وهكذا انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعها، وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها، فتحاجز الفريقان، وأظلم الفضاء بينهما وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاٍ متبرهبين ونساء عانسات، ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون.
فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية، وقال: تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها، فلنصبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها. فقلت له: لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن أختلف إليك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي، لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانبُ سترٍ من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك في حضرتك تقتلين حياء وخجلاً، ثم انصرفت وكان هذا آخر ما بني وبينه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه وأصدقائه، وأنه قد أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المدال أو الحزن على الصديق المفقود.
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام، لا أزوره فيها ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب، ثم أنطلق في سبيلي.
فإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس وقد مضى الشطر الأول من الليل إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية المضطرب الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده، فأهمني أمره ودنوت منه وسألته عن شأنه فقال: لا أعلم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب، فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي القديم بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا علني أحتاج إلى معونتك فيما قد يعرض هناك من الشؤون؟ قلت: لا أحب إلىّ من ذلك، ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يُزوّر في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إليّ فيمنعه الخجل والحياء، ففاتحته الحديث وقلت له: ألم تستطع أن تتذكر لهذه الدعوة سبباً؟ فنظر إليّ نظرةً حائرة وقال: إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث مؤلم، فقد رابني من أمرها الليلة، وإنها لم تعد إلى منزلها حتى الساعة وما كان ذلك شأنها من قبل. قلت: أما كان يصحبها أحد؟ قال: لا، قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟ قال: لا. قلت: ومما تخاف عليها؟ قال: لا أخاف شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيورة حمقاء، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما خصومة، انتهت إلى رجال الشرطة.. وكنا قد وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور حتى صرن بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمهما ثم استدنى الفتى إليه وقال: يسؤوني يا سيدي أن أقول لك إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان ما من أمكنة الريبة على رجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لك بها صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها وأمرها وأمر صاحبها فإذا كانت صادقة إذنّا لها بالانصراف معك إكراماً لك، وإبقاء على شرفك، وإلا فهي امرأة فاجرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات، وها هما وراءك، وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى فنظر فإذا المرأة زوجته، وإذا الرجل أحد أصدقائه، فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط في مكانه مغشياً عليه.
فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل، وأمر بصاحبها إلى السجن، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليل يعالجه حتى دنا الصباح فانصرف الطبيب على أن يعود متى دعوناه، وعهد إلىّ بأمره فلبثت بجانبه أرثي لحاله وأنتظر قضاء الله فيه حتى رأيته يتحرك في مضجعه ثم فتح عينيه فرآني فلبِثَ شاخصاً إلىّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيع فدنوت منه وقلت هل من حاجة يا صديقي؟ فأجاب بصوت ضعيف خافت: حاجتي أن لا يدخل عليّ من الناس أحد، قلت: لن يدخل عليك إلا من تريد، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مبتلتان بالدموع، فقلت: ما بكاؤك يا صديقي؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لها أني عفوت عنها، قلت: إنها في بيت أبيها، فقال: وارحمناه لها ولأبيها ولجميع قومها فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاد فألبستهم منذ عرفوني ثوباً من العار لا تبلوه الأيام.
من لي بمن يبلغهم جميعاً أنني رجل مريض مشرف وأنني أخشى لقاء الله إذا لقيته بدمائهم وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا ذنبي فيغفر لي الله لغفرانه، قبل أن يسبق إلىّ أجلي.
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم أهتديتها [9] أن أصون عرضها صيانتي لحياتي، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي، فحنثتُ في يميني فهل يغفر لي ذنبي فيغفر لي الله بغفرانه.
إنها قتلتْني ولكني أنا الذي فتحتُ باب بيتي لصديقي إلى زوجتي فلم يذنب لي أحد سواي.
ثم أمسك عن الكلام برهة فنظرتُ إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً، حتى لبست وجهه فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه ثم أنشأ يقول:
آه ما أشد الظلام أمام عيني، وما أضيق الدنيا في وجهي، في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف، كنت أراهما جالسين يتحدثان فتمثليء نفسي غبطة وسروراً، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفيّ يؤنس لي زوجتي في وحدتها، وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقي في غيبتي، فقولوا للناس جميعاً إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم قد أصبح يعترف أنه أبله إلى الغاية من البلاهة، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها.
والهفاه على أم لم تلدني، وأب عاقر لا نصيب له في البنين!
لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض ويحدقون النظر إلىّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجود البله، والغباوة في وجوه الأغبياء، ولعل الذين كانوا يطوفون بي ويتوددون إليّ من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم وبين أنفسهم قواداً، ويسمون زوجتي موسماً، وبيتي ماخوراً [10]، فوا رحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ولو ساعة واحدة، ووالهفاه على زاوية من زوايا قبر عميق يطويني ويطوي عاري معي.
ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه.
وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى دنت به من فراشه فتركته وانصرفت، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا صدر أبيه فلأحسّ به ففتح عينيه فرأه فابتسم لمرآة، وضمه إليه ضمة الرفق والحنان، وأدنى فمه من وجهه كأنما يريد أن يقبله ثم انتفض فجأة ودفعه عنه بيده دفعاً شديداً، فانكفأ على وجهه يبكي ويصيح وقال: أبعدوه عني، لا أعرفه ليس لي أولاد ولا نساء، سلوا أمه عن أبيه أين مكانه، واذهبوا به إليه، لا ألبس العار في حياتي، وأتركه أثراً خالداً ورائي بعد مماتي، وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به فمسع صوته وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح أرجعوه إلىّ فعادت به المرضع فتناوله وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول:
في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم وما خلفت لك أمك من العار فاغفر لهما ذنبهما إليك فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال الأمانة، فسقطت، وكان أبوك حسن النية في الجريمة التي اجترمها فأساء من حيث أراد الإحسان.
سواء أكنت ولدي يا بني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك برهة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حياً أو ميتاً.
ثم احتضنه إليه وقبّله في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم أو الرجل الكريم.
وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمى وغلت نارها في رأسه وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفتُ عليه التلف فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً.
ثم بدأ ينزع نرعاً شديداً ويشن أنيناً مؤلماً، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا رفضت كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها.
فإنّا لَجلوس حوله وقد بدأ الموت يُسبل أستاره السوداء حول سريره فإذا بامرأة متزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ثم أكبت على يده الممتدة فوق صدره فقبلتها وأخذت تقول له:
لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك أنها وإن كانت دنت من الجريمة، فإنها لم ترتكبها، فاعف عني يا والد ولدي، وأسأل الله -إن متُّ- أن يلحقني بك فلا خير لي في الحياة من بعدك.
ثم انفجرت باكية ففتح عينيه وألقى على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى.