~¤¦¦§¦¦¤~ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ~¤¦¦§¦¦¤~
حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي وكنيته أبا عبد الله وكان صاحب سر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، منذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الاسلام ، والاسلام يزيد موهبته هذه صقلا ،ف
لقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما ، يحتقر الجبن والنفاق ، والكذب ..
وتأدب على يدي رسول واضح كفلق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق
نفسه خافية ، صادق وأمين ، يحب الأقوياء في الحق ، ويمقت الملتوين والمرائين
والمخادعين..
فترعرعت موهبة حذيفة في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول صلى الله عليه
وسلم ، ووسط هذا الرعيل العظيم من الأصحاب.
ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء ، وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر ، يقرأ
الوجوه في نظرة ، ويبلو كنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة في غير
عناء ، ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو
الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.
ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن
يريده ، وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى
بدراسة الشر في مآتيه، وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار،
والنفاق والمؤمنين ، فكان يقول :
( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني )
قلت : ( يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟ )
قال : " نعم "
قلت : ( فهل بعد هذا الشر من خير ؟ )
قال : " نعم، وفيه دخن "
قلت : ( وما طخنه..؟ )
قال : " قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر "
قلت : ( وهل بعد ذلك الخير من شر..؟ )
قال : " نعم ! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها "
قلت : ( يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟ )
قال : " تلزم جماعة المسلمين وامامهم.. "
قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟
قال : " تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت
وأنت على ذلك "
لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن ، ومسالك الشرور
ليتقيها، وليحذر الناس منها ، ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة
بالزمن ، وكان يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم.
~¤¦¦§¦¦¤~ إيمانه ~¤¦¦§¦¦¤~
لقد كان في ايمانه رضي الله عنه وولائه قويا ، فها هو يرى والده يقتل خطأ يوم أحد
بأيدي مسلمة ، فقد رأى السيوف تنوشه فصاح بضاربيه :
( أبي ، أبي ، انه أبي !! ) ولكن أمر الله قد نفذ ، وحين علم المسلمون تولاهم الحزن
والوجوم ، لكنه نظر اليهم اشفاقا وقال :
( يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين )
ثم انطلق بسيفه يؤدي واجبه في المعركة الدائرة وبعد انتهاء المعركة علم الرسول
صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأمر بالدية عن والد حذيفة رضي الله عنه ( حسيل بن جابر )
ولكن تصدق بها حذيفة على المسلمين ، فزداد الرسول له حبا وتقديرا .
~¤¦¦§¦¦¤~ غزوة الخندق ~¤¦¦§¦¦¤~
في غزوة الحندق وبعد أن دب الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود،
أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف على آخر تطورات الموقف هناك في
معسكر أعدائه.
كان اليل مظلما ورهيبا ، وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال
الصحراء الراسيات من مكانها ، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب
الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن يملك آنئذ القوة، وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة
الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم ؟؟
ان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة
العسر ..ترى من يكون البطل ؟
انه هو حذيفة بن اليمان
دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ
أنه لم يكن يملك الا أن يلبي ، مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه،
ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع ، والصقيع، والاعياء الجديد الذي
خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد ..
وكان أمر حذيفة رضي الله عنه تلك الليلة عجيبا ، فقد قطع المسافة بين المعسكرين،
واخترق الحصار ، وتسلل الى معسكر قريش ، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران
المعسكر ، فخيم عليه الظلام، واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين
وخشي أبوسفيان قائد قريش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين ، فقام يحذر
جيشه، وسمعه حذيفة رضي الله عنه يقول بصوته المرتفع :
يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ؟
قال حذيفة رضي الله عنه :
( فأخذت بيد الرجل الذي كان الى جنبي فقلت : من أنت ؟ )
قال : فلان بن فلان
فأمن نفسه في المعسكر ، ثم قال أبو سفيان :
يا معشر قريش ، انكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ،
وأخلفتنا بنوقريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ،
ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني
مرتحل ، ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير، يقول حذيفة رضي الله عنه :
( لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الي الا تحدث شيئا حتى تأتيني ،
لقتلته بسهم )
وعاد حذيفة رضي الله عنه الى الرسول صلى الله عليه وسلم حاملا له البشرى .
~¤¦¦§¦¦¤~ المنافقون ~¤¦¦§¦¦¤~
كان حذيفة رضي الله عنه يعلم أسماء المنافقين ، أعلمه بهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وسأله عمر رضي الله عنه : ( أفي عمالي أحد من المنافقين ؟ )
قال : ( نعم ، واحد )
قال : ( من هو ؟ )
قال : ( لا أذكره )
قال حذيفة : ( فعزله كأنما دل عليه )
وكان عمر رضي الله عنه إذا مات ميت يسأل عن حذيفة رضي الله عنه ، فإن حضر
الصلاة عليه صلى عليه عمر رضي الله عنه ، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم
يحضر عمر رضي الله عنه .
~¤¦¦§¦¦¤~ آخر ما سمع من الرسول ~¤¦¦§¦¦¤~
عن حذيفة رضي الله عنه قال :
( أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفاه الله فيه ، فقلت :
( يا رسول الله ، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي ؟! )
فرد علي بما شاء الله ثم قال : " يا حذيفة أدْنُ منّي "
فدنوت من تلقاء وجهه ، قال :
" يا حُذيفة إنّه من ختم الله به بصومِ يومٍ ، أرادَ به الله تعالى أدخلَه الله الجنة ، ومن أطعم
جائعاً أراد به الله ، أدخله الله الجنة ، ومن كسا عارياً أراد به الله ، أدخله الله الجنة "
قلت
يا رسول الله ، أسر هذا الحديث أم أعلنه )
قال : " بلْ أعلنه " فهذا آخر شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم "
~¤¦¦§¦¦¤~ أهل المدائن ~¤¦¦§¦¦¤~
خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين
عمر رضي الله عنه ، خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا
الكثير عن ورعه وتقاه ، وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق.
وبينماهم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على
ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا،
وهو يأكل ويمضغ طعامه.
وحين توسط جمعهم ، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الوالي الذي
ينتظرون ، كاد صوابهم يطير ..
أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز
الجليل وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به.
وحين رآهم حذيفة رضي الله عنه يحدقون به قال لهم :
( اياكم ومواقف الفتن )
قالوا : وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله ؟
قال : ( أبواب الأمراء ، يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي ، فيصدقه بالكذب ،
ويمتدحه بما ليس فيه )
فكانت هذه البداية أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد ، ومنهجه في الولاية
~¤¦¦§¦¦¤~ معركة نهاوند ~¤¦¦§¦¦¤~
في معركة نهاوند حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين ألفا ، اختار أمير
المؤمنين عمر رضي الله عنه لقيادة الجيوش المسلمة ( النعمان بن مقرن ) ثم كتب الى
حذيفة رضي الله عنه أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة ، وأرسل عمر رضي
الله عنه للمقاتلين كتابه يقول :
( اذا اجتمع المسلمون ، فليكن كل أمير على جيشه ، وليكن أمير الجيوش جميعا
(النعمان بن مقرن ) ، فاذا استشهد النعمان فليأخذ الراية حذيفة ، فاذا استشهد
فجرير بن عبدالله )
وهكذا استمر يختار قواد المعركة حتى سمى منهم سبعة
والتقى الجيشان ونشب قتال قوي ، وسقط القائد النعمان شهيدا ، وقبل أن تسقط
الراية كان القائد الجديد حذيفة يرفعها عاليا وأوصى بألا يذاع نبأ استشهاد النعمان
حتى تنجلي المعركة ، ودعا ( نعيم بن مقرن ) فجعله مكان أخيه ( النعمان ) تكريما له ،
ثم هجم على الفرس صائحا :
( الله أكبر : صدق وعده ، الله أكبر : نصر جنده )
ثم نادى المسلمين قائلا :
( يا أتباع محمد ، هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم ، فلا تطيلوا عليها الانتظار )
وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس .
وكان فتح همدان والري والدينور على يده ، وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين ، وتزوج
فيها
~¤¦¦§¦¦¤~ اختياره للكوفة ~¤¦¦§¦¦¤~
أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا ، فكتب عمررضي الله عنه لسعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه كي يغادرها فورا بعد أن يجد مكانا ملائما للمسلمين ، فوكل أمر
اختيار المكان لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه ومعه سلمان بن زياد ، فلما بلغا أرض
الكوفة وكانت حصباء جرداء مرملة ، قال حذيفة رضي الله عنه لصاحبه :
( هنا المنزل ان شاء الله )
وهكذا خططت الكوفة وتحولت الى مدينة عامرة ، وشفي سقيم المسلمين وقوي
ضعيفهم
~¤¦¦§¦¦¤~ فضله ~¤¦¦§¦¦¤~
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" ما من نبي قبلي إلا قد أعطيَ سبعة نُجباء رفقاء ، وأعطيت أنا أربعة عشر :
سبعة من قريش : علي والحسن والحسين وحمزة وجعفر ، وأبو بكر وعمر ، وسبعة من
المهاجرين : عبد الله ابن مسعود ، وسلمان وأبو ذر وحذيفة وعمار والمقداد وبلال "
رضوان الله عليهم
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : استخلفتَ
فقال : " إني إن استخلِفُ عليكم فعصيتم خليفتي عُذبتم ، ولكم ما حدثكم به حُذيفة
فصدقوه ، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقرؤوه "
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحابه : ( تمنوا )
فتمنوا ملء البيت الذي كانوا فيه مالا وجواهر ينفقونها في سبيل الله ، فقال عمر رضي
الله عنه :
( لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان ، فأستعملهم
في طاعة الله عز وجل )
ثم بعث بمال إلى أبي عبيدة وقال
انظر ما يصنع )
فقسمه
ثم بعث بمال إلى حذيفة وقال
انظر ما يصنع )
فقسمه
فقال عمر
قد قلت لكم )
~¤¦¦§¦¦¤~ من أقواله ~¤¦¦§¦¦¤~
لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه أقوالا بليغة كثيرة ، فقد كان واسع الذكاء والخبرة ،
وكان يقول للمسلمين :
( ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا ، ولكن الذين
يأخذون من هذه ومن هذه )
يقول حذيفة :
( أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ، وما بي أن يكون رسول
الله صلى الله عليه وسلم اسر إلي شيئا لم يحدث به غيري ، وكان ذكر الفتن في مجلس
أنا فيه ، فذكر ثلاثا لا يذرن شيئا، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري )
كان رضي الله عنه يقول :
( ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فدعا الناس من الضلالة الى الهدى ،
ومن الكفر الى الايمان ، فاستجاب له من استجاب ، فحيى بالحق من كان ميتا ، ومات
بالباطل من كان حيا ، ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على منهاجها ، ثم يكون ملكا
عضوضا ، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه ، أولئك استجابوا للحق ، ومنهم من
ينكر بقلبه ولسانه ، كافا يده ، فهذا ترك شعبة من الحق ، ومنهم من ينكر بقلبه ،
كافا يده ولسانه ، فهذا ترك شعبتين من الحق ، ومنهم من لاينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه ،
فذلك ميت الأحياء )
ويتحدث عن القلوب والهدى والضلالة فيقول :
( القلوب أربعة : قلب أغلف ، فذلك قلب كافر وقلب مصفح ، فذلك قلب المنافق
وقلب أجرد ، فيه سراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن وقلب فيه نفاق و ايمان ، فمثل
الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب ومثل المنافق كمثل القرحة يمدها قيح ودم ،
فأيهما غلب غلب )
~¤¦¦§¦¦¤~ مقتل عثمان ~¤¦¦§¦¦¤~
كان حذيفة رضي الله عنه يقول :
( اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، والله ما شهدت ولا قتلت ولا مالأت على قتله )
~¤¦¦§¦¦¤~ وفاته ~¤¦¦§¦¦¤~
لما نزل بحذيفة رضي الله عنه الموت جزع جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا ،
فقيل : ما يبكيك ؟
فقال : ( ما أبكي أسفاً على الدنيا ، بل الموت أحب إلي ، ولكني لا أدري على ما أقدم
على رضى أم على سخطٍ )
ودخل عليه بعض أصحابه ، فسألهم :
( أجئتم معكم بأكفان ؟)
قالوا : نعم
قال : ( أرونيها )
فوجدها جديدة فارهة ، فابتسم وقال لهم :
( ما هذا لي بكفن ، انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص ، فاني لن أترك
في القبر الا قليلا ، حتى أبدل خيرا منهما ، أو شرا منهما )
ثم تمتم بكلمات : ( مرحبا بالموت ، حبيب جاء على شوق ، لا أفلح من ندم )
وأسلم الروح الطاهرة لبارئها في أحد أيام العام الهجري السادس والثلاثين بالمدائن ،
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه بأربعين ليلة .