إذا تأملت أحوال هذا الخلق ، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا
على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته ،
وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ،
ويدبر كتدبيره ، فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود
أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ،
وصفات كماله ، وصدق رسله ، فنشير منه إلى يسير يكون منبها
على ما وراءه دالا على ما سواه .
فخلق الله السماوات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين
من ملائكته ، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه ،
وأسكنها من شاء من خلقه ، فلها مزية وفضل على سائر السماوات ،
ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى .
وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السماوات من أبين الأدلة
على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار .
ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ،
وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها ، وفي بعض الآثار :
" إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه " .
ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم ،
كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ،
عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،
اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ،
إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .
فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم ، واصطفائهم ،
وقربهم من الله ، وكم من ملك غيرهم في السماوات ،
فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة .
صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح
صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات
صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات ،
وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام ،
وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، واختياره الرسل منهم ،
وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ،
على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد ،
وابن حبان في " صحيحه " ، واختياره أولي العزم منهم ،
وهم خمسة المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ }
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }
واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صل الله عليهما وآلهما وسلم .
ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ،
ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ،
ثم اختار من ولد كنانة قريشا ،
ثم اختار من قريش بني هاشم ،
ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا صل الله عليه وسلم .
وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين ، واختار منهم السابقين الأولين ،
واختار منهم أهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، واختار لهم من الدين أكمله ،
ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها .
واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، كما في
وغيره من حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله )
قال علي بن المديني وأحمد : حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح .
وظهر أثر هذا الاختيار في أعمالهم ، وأخلاقهم ، وتوحيدهم ، ومنازلهم
في الجنة ، ومقاماتهم في الموقف ، فإنهم أعلى من الناس
على تل فوقهم يشرفون عليهم .
وفي الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من هذه الأمة
، وأربعون من سائر الأمم )
قال الترمذي : هذا حديث حسن .
والذي في " الصحيح " من حديث أبي سعيد الخدري
عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار :
( والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة )
ولم يزد على ذلك . فإما أن يقال :
إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة ،
( إنهم ثمانون صفا من مائة وعشرين صفا )
فلا تنافي بين الحديثين ، والله أعلم .
ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه وهبها من العلم والحلم ما لم
وفي " مسند البزار " وغيره من حديث أبي الدرداء قال :
سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول :
( إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم :
إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا ،
وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم ،
قال : يا رب ، كيف هذا ولا حلم ولا علم ؟
قال : أعطيهم من حلمي وعلمي ) .
من كتاب زاد المعاد(لابن القيّم رحمه الله