[c]احترس من العفاريت


كنا أطفالاً تجتذبنا قصص العفاريت وألف ليلة، وليلة وكان بالمنزل حديقة واسعة لم تعرف يد العناية منذ نشأتها؛ فكانت عندما يحل الظلام مصدر رعب، وكان مجرد صوت لحشرة أو حيوان زاحف ممن تمتلئ بهم الحديقة يملؤنا بالفزع، ونعتقد أنه عفريت من الجن. لاحظ أبي خوفنا من العفاريت وكيف أنه لم يعد يشغل بالنا سواهم وكيفية الوقاية منهم فأسرها في نفسه. وفي يوم العطلة الأسبوعية جمعنا ليحكي لنا قصة العفريت الذي ظهر له البارحة، وكان عفريتًا عجوزًا أصابة الشلل، وما إن شاهد أبي حتى قال له: يابني خذ بيدي حتى أخيفك. ضحكنا من العفريت العجوز ومن يومها لم نرهب ذلك العفريت الوحيد الفقير الذي يقطن منزلنا بلا إيجار.



قدرات خاصه


في المرحلة الأولية من التعليم الأولي كان في فصلنا تلميذان لهما قدرات خاصة، لا يمتلكها غيرهما من التلاميذ يحسدهم الآخرون عليها؛ فقد كان لأحدهما القدرة على تحريك أذنيه تلقائيًا، وكان للآخر القدرة على تحريك فروة رأسه أيضًا ذاتيًا. وحدت المواهب المتميزة بينهما فتصادقا واختارا أن يجلسا بجوار بعضهما بعضًا، ومن حسن حظي السيئ اختارا الجلوس أمامي، وفي حصة الحساب يبدأ العرض مع انغماس المعلم في وطيس الشرح فيبدأ صاحب الأذنين الطويلتين بترقيصهما، وتزداد حركة الترقيص كلما ازدادت المسألة الحسابية صعوبة، ثم يليه صاحب الفروه الراقصة وكأنها محترمة ترقص على إيقاع طبال حاذق يزداد مع ازدياد حدة الشرح وصعوبة الدرس، وكأن المعلم هو العازف وهما ثنائيا الرقص المتناسق معه. وما إن أشاهد العرض الراقص حتى يجتذبني ولا أتابع المعلم. استمرت الحال على هذا المنوال حتى اكتشف المعلم أنني لا أفقه شيئًا في علم الحساب، فظل يضربني يوميًا، ولم أدرك أن تأخري الدراسي بسبب العرض الذي يقوم به زميلاي يوميًا، لكنهما ومع تقدم المقرر الدراسي كان العرض يأخذ أبعادًا فنية أكثر، وقد سألتهما بطريقة عرضية لماذا يفعلان ذلك؟ أجابا أنهما لا يمكن أن يفهما الدرس بدون تلك الاهتزازات، وأنهما يفعلان ذلك بصورة لا إرادية، وأن الأذنين وفروة الرأس بمثابة الهوائي الذي يلتقط الإرسال ويبعثه للمخ فيترجمه. استمر ضرب المعلم لي يوميًا حتى أتي الحل قضاء وقدرًا، فقد تم انتقال الأسرة كلها إلى سكن جديد في مدينة القاهرة، وكنا نقطن مدينة الجيزة، وتم انتقالي إلى مدرسة جديدة ليس فيها زميلاي الفنانان. وفي حصة الحساب كانت المعلمة تشرح الدرس وعقلي يشرد مع زميلاتي في الجيزة على الشاطئ الآخر من ضفة النهر، واستمر مسلسل الضرب في القاهرة كالجيزة. يا قلب لا تحزن.



من قاموس الأطفال


شوباش

«الكلمة من الكلم وهو الجرح والكلمة التي لا تترك أثرًا ليست كلمه هي لفظ يلفظ».
كانت أمي تؤمن بأهمية الكلمة في التأثير على الحالة النفسية، وكانت دائمًا تردد مقولة «الملافظ سعد» وكانت تغضب إن نطق أحدنا بكلمة سوقية. وفي الاحتفالات الشعبية بالزواج والختان وغيرها كنا نسمع كلمة شوباش يرددها أفراد جوقة الفنانين الذين يطلق عليهم العوالم، ولم أكن أعلم معناها ولم تقال؟ لكنني كنت أعشق صداها وأرددها منغمة فتصدني نظرة قاسية من أمي، وأحيانًا لكمة على ظهري حتى تكونت عندي عقد نفسية من كلمة «شوباش». كففت عن ترديدها حتى لا يصيبني العقاب الرادع من أمي، لكنني كنت أهمس بها لنفسي وأحيانًا أمام المرآة، فقد كان رنين الكلمة يعجبني ولم أكن أدري لماذا؟ وبعد طول بحث وتقص علمت أن «شوباش» تقال لمن يحضرون الاحتفال الشعبي كتحية لكي يجزلوا العطاء لأفراد الفرقة الفنية، وهكذا عرفت سبب حبي للكلمة وكراهية أمي لها فقد كنت أريد من أمي أن تجزل لي العطاء ولم تكن أمي تريد ذلك.

كشكش

«كشكش بك» هو الشخصية الفكاهية التي جعلت نجيب الريحاني فنانًا مشهورًا. من طقوس الطفولة التي اندثرت هذه الأيام، أنه إذا أراد أحد الأطفال إغاظة أخية أو صديقه أن يخرج له لسانه وكأنه يستهزئ به ويسخر منه، فيسارع الطرف الآخر بمد يده إليه وكأن فيها طعامًا ويقول له: خذ كشكش. وعبارة «كشكش» تقال للكلاب لاستدعائهم بترغيبهم في طعام يحبونه. وكانت «كشكش» تحيرني وأريد أن أعرف أصلها وجذورها العميقة وهل هي من لغة الكلاب وتعني الطعام، وإذا كانت من لغة الكلاب فلماذا لا ينطقونها؟ أم أنها تسمع ولا تنطق. اختفى ذلك الطقس الطفولي ولم يعد أطفال العصر الحاضر يفعلونه، واختفت كشكش في عقلي الباطن تؤرقني حتى عرفت أصلها من أحد الكتب القديمة، فقد كان في عهد «محمد علي باشا» والي مصر ضابط في الأسطول المصري اسمه «كوشك علي بك» أي علي بك الصغير سكن الإسكندرية بعد أن أحيل للتقاعد وكان من طبعه العطف على الكلاب يطعمها الطعام فتلتف حوله، ثم حدث التحريف من كوشك إلى كشكش، وقد ارتبط بالكلاب وارتبطت به، وتوارثت الكلاب كلمة كشكش وتعلمتها وأحبتها فقد ارتبطت في ذهنها بالطعام الذي كان كوشك علي بك يقدمه لأجداد أجداد أجدادها فالمعروف لا يضيع أبدًا. وهكذا خلدت الكلاب ذكرى الرجل فالكلاب طبيعتها الوفاء.



أقاصيص مرحة



إنها تموت قبل أن تموت

فلسفة: الحياة صراع بين إنسان وحشرة. من ينتصر؟ ـ كان بائع الكتب القديمة الذي أبتاع منه شابًا متحذلقًا متفلسفًا مريضًا بالفصام الذي من أهم أعراضه عند هذا الشاب «جنون عظمة» وفي يوم من الأيام بعد أن انتقيت حاجتي من الكتب وأعطيتها له لكي يثمنها عرض عليَّ أحدث اختراعاته، وهي مذبة لقتل الذباب اشتراها من بائع جوال بثمن بخس وقال لي إن هذه المذبة هي أعظم اختراعاته قاطبة فهي تخلخل الهواء قبل أن تهبط على الحشرة فتفقدها توازنها وتؤدي إلى نقص الأكسجين من الهواء المخلخل أو انعدامه فتموت الحشرة قبل أن تموت، تموت من نقص الهواء وتصعق من خلخلته قبل أن تصيبها الضربة الصاعقة فتموت مرتين، وهذا من الأهمية بمكان فإذا كانت القطة بسبعة أرواح فالذبابة بروحين فيجب أن تموت مرتين لكن المهم أن تنزل على الذبابة فجأة وبقوة. وعندما سأله أحد الواقفين لماذا تقتل الذباب؟ لماذا تقتل الذباب؟ كرر السؤال مندهشًا من غباء السائل لكنه أجابه رأفة به لم يقل له إن الذباب ضار ويسبب الأمراض القاتلة للإنسان، فهو لا يعترف بذلك إذ كيف لمجنون عظمة أن تقتله ذبابة ضعيفة تحمل الأمراض، لكنه قال إن الحياة صراع بين الإنسان والحشرة فالحشرة تسرق غذاء الإنسان وتأخذ ما ليس تملكه ويملكه الإنسان. وعندما قلت له إن الذبابة تأخذ من الطعام ما لا يرى بالعين المجردة ولا تؤثر إطلاقًا في كمية الغذاء قال لي احسب عدد الذباب في العالم وما يسلبه من غذاء طوال حياة الإنسان ستجد أنها تسلب عدة أطنان عدا ما يحدث إذا وجد إنسان ذبابة في حسائه فيصيبه القرف ويدلق الحساء كله في البالوعة «ياجاهل» ـ الكلمة الأخيرة صفة أطلقها عليَّ ورفض أن يتقاضى ثمن الكتب وأعطانيها مجانًا علها تشفيني من الجهل.

العمر الطويل

عندما كنا أطفالاً نسمع الكبار إذا تحدث أحدهم بكلام كان الآخر ينوي أن يقوله في التو واللحظة عقب المستمع بقوله «عمرك أطول من عمري» عندما طلب صديق أبي من أبي أن يقرضه عشرة جنيهات قال أبي: «عمرك أطول من عمري»
كل ممنوع مرغوب
في سنوات الدراسة هناك دروس مقررة ودروس غير مقررة في كل العلوم تقريبًا. الغريب أنني كنت أستظهر الدروس غير المقررة جيدًا ولا أقرأ الدروس المقررة فقد كنت أتساءل عن العلة في كونها غير مقررة هل هي مخلة بالآداب العامة؟



من دفتر الذكريات



لا جديد تحت الشمس

عندما طلب التلميذ من أبيه البخيل أن يشتري له كرة أرضية لكي يدرس عليها منهج الجغرافيا قال الأب: إنني لا أستطيع أن أشتري لك كرة أرضية حاليًا فالحروب والاضطرابات والزلازل والكوارث تمنع استقرار الأرض وحالما تستقر فسوف أشتري لك الكرة. وبعد خمسين عامًا كرر الابن الذي صار أبًا لابنه هذا الكلام.

بصل وكمثرى

في طفولتي دخلت المدرسة الابتدائية في القرية، وظللت بها حتى قاربت المرحلة الابتدائية على الانتهاء، وفي السنة الأخيرة قضيت نصفها في القرية ثم انتقل أبي للعمل في المدينة فدرست النصف الآخر في المدينة، وكان كتاب العلوم في القرية يختلف في بعض الجزئيات عن كتاب العلوم في المدينة، ففي القرية يقول كتاب العلوم إن المصباح الكهربائي يشبه بصلة من الزجاج، وفي المدينة يقول كتاب العلوم إن المصباح الكهربائي يشبة كمثرى من الزجاج فابن الريف يعرف البصل ولا يعرف الكمثرى.

المثل الأعلى

في طفولتي كنت معجبًا إلى درجة العشق بقصة أمريكية عن رجل أثرى ثراء فاحشًا رغم أنه بدأ حياته من الصفر، وكيف أنه لا يعرف مقدار ثروته حاليًا بعد أن كان لا يجد ما يتبلغ به، وقد وضع في صباه خطة محكمة للتوفير تتضمن ألا يضع نعالاً في قدميه فيوفر ثمن الأحذية، ثم اكتشف أن وقوفه بدلاً من الجلوس سيجعل سراويله لا تبلى من عند المؤخرة فقضى فترة صباه واقفًا، ثم اكتشف أنه يستطيع أن يأكل الخبز القفار على رائحة القتار فكان يبتاع الخبز الحاف ويقف بجوار محل لبيع الشواء ويأكل خبزه على رائحة الشواء فيوفر أجر الإدام، وتمكن من خلال هذه الطرق وغيرها من توفير مائة دولار في عشر سنوات، ثم وجد ورقة يا نصيب سقطت من رجل سكير فالتقطها فإذا بها تكسب الجائزة الأولى التي جعلته واحدًا من أغنى أغنياء أمريكا. وهكذا تمكن هذا الرجل العظيم بالدأب والإصرار وأكل الخبز الحاف من تحقيق حلم حياته. وقد بدأت في تقليد هذا الرجل الفذ فبدأت أولاً بعدم الجلوس حتى لا تبلى سراويلي لكنني لم أستطع أن أستمر بعد أن أصابتني الآلام المبرحة في ركبتي وذهبت للطبيب الذي تقاضى أجرة ثمن سروال ووصف لي دواء يساوي ثمن سروال آخر.

المربي الفاضل

إنني أربي الدجاج تربية علمية سليمة فأنا لا أفرض على أي دجاجة إفطارًا معينًا إنني أعطي كل دجاجة مبلغًا من المال لكي تشتري هي ما يروقها من إفطار.




من فهرس الأيام



طاقة السعد

في طفولتي كنت أسمع عن طاقة السعد وأنتظر أن تفتح لي وكنت أتخيلها كُوَّهً في الجدار المصمت تنفتح فجأة ويدخل منها السعد الذي لا أدري حتى الآن ما هو؟ كنت أشاهد باعة البيض يفترشون الأرصفة، وكنت أشفق عليهم لوفَقَّس بيضهم فجأة وظهرت الفراخ الصغيرة تُصَوّص كيف يرتزقون؟ حتى أخبرتني شقيقتي أحلام أن هذا لو حدث لا نفتحت لهم طاقة السعد فثمن البيضة قرش واحد بينما ثمن الفرخ قرش ونصف وهكذا لو حدث ذلك فسيربحون أكثر وعرفت أن طاقة السعد تفتح في البيضة وليس بعد أن يشب الإنسان عن الطوق.

أحلام الطفولة

لقد نلت كل ما تمنيته في طفولتي. كنت أتمنى بساط الريح وقد حصلت عليه في كهولتي فزوجتي بعد أن تغسل بساطنا القذر تنشره في الريح ليجف. وحصلت على مصباح علاء الدين عندما ألقى علاء الدين ابن الجيران مصباحه على رأسي وأنا أسير في الطريق. وامتلكت خاتم سليمان فقد أهداني سليمان صديقي خاتمه الحديدي الصدئ الذي كان يسبب له التهابًا شديدًا في أصبعه عندما يضعه فيه.

تحت الأرض

كانت شقيقتي الكبرى تكبرني بثلاث سنوات فقط، وكنا ندرس معًا في المرحلة الأولية في المدرسة نفسها وكانت أمي تفوضها في تنظيم أموري كلها الملابس والطعام وتصفيف شعري وغسل أقدامي المتسخة دومًا من المشي حافيًا على الأرض. كانت أختي أمًا صغيرة بكل ما تحمل كلمة الأمومة من معاني الحب والحنان والرعاية تفعل كل شيء يخصني بإخلاص وأمانة، أما الطعام فكانت تقسمه بيني وبينها ثلاثة أقسام تعطيني قسمًا وتأكل هي قسمها وتحمل القسم الثالث إلى حيث لا أدري قائلة إن هذا نصيب أختنا تحت الأرض حتى لا تؤذينا، وإن لنا شقيقة من الجن يجب أن نأخذ نصيبها كاملاً فهي أختنا على أية حال وإن كانت تعيش في عالم آخر. مرت السنون وكفت أختي عن تقديم الطعام لكائنات العالم الأرضي لكنني أبدًا لم أشك في أختي فمازلت أعتقد أن أختنا الأرضية كبرت وأصبحت تعد غذاءها بنفسها.

في البدء كان الإنسان وفي النهاية العقل الإلكتروني

عندما تقوم الحرب النووية وهي آتية ويفنى البشر جميعهم سوف نجد أن الذي نجا من الدمار عقل إلكتروني ذكر وعقل إلكتروني أنثى يبدآن الحياة من جديد ويقع عليهما عبء إعمار العالم بالذكور والإناث أدعو لهما بالتوفيق[/c]



المصدر : المعرفه_ العدد(88)_للكاتب:عبد الغني عبد الحميد رجب_مصر