الحديث الحلو
واللحن الشجي
إذا تخيلت رجلا طويلا عريضا عالي الرأس عريض الجبين شامخ الأنف، قفز من مقعده تاركا عشرات الكتب في الشريعة والفقه والسيرة والفلسفة ومشي على أطراف أصابعه واتجه إلى المطبخ، واصطدم بوابور الجاز ثم كتم أنفاسه، وألصق أذنه بالباب .. ولما لم يجد أحدا، فتح الباب ليطرد القطط التي تزاحمت على صندوق الزبالة ثم ضرب الباب بعنف وراح يتمشى في البيت الضيق، ثم لوح في الهواء بيديه يلعن أحدا أو يلعن ضعفه.. وفجأة يتجه إلى المطبخ ويفتح الباب وذراعيه فقد جاءت المحبوبة.. إنها فتاة سمراء واسعة العينين ممتلئة الشفتين ويحتضنها وهو لا يتوقف عن السؤال عنها وعن والدها وعن أسرتها.. ولماذا تأخرت هكذا.. وإنه لم يستطع أن يقرأ ولا أن يكتب.. ولا حتى استجاب لرنين التليفون .. وهي لا ترد لأنها لا تستطيع أن تجيب على كل هذه التساؤلات.. هو يراها ينبوع الشباب.. وهي تراه نصف إله.
وفي اليوم التالي تجيء هذه الفتاة وتصعد السلالم وتلقي بورقة من تحت الباب.. تعتذر عن الدخول..وبعد ذلك بيوم تعود تدق الباب الأمامي فلا يفتح. فتتجه إلى سلم الخدم وتدق باب المطبخ ثم تلقي بورقة من تحت الباب.. وتدق الباب وتبكي. ولكنه قد اعتصم بمكتبه واستند إلى عشرات الكتب واستبد به الغضب وعظم الاحتقار لها ولكل بنات جنسها.. ولنفسه إن كان هكذا يضعف أمام رغبات صبية صغيرة تهبط من سماء الآلهة إلى حظيرة الحيوانات الآدمية..
إنه الأستاذ العظيم عبــاس العقــاد، إنه عظيم ولكنه بشـر!
ولو رجعنا إلى كل أدباء ومفكري وشعراء مصر في هذا القرن فإننا لا نجد واحدا منهم قد اعترف بأنه أحب. أو ذكر اسمها أو هي أشاعت ذلك.. إلا الأستاذ العقاد. فقد تكفل أصدقاؤه وتلاميذه بذلك.. فأنا عندما كتبت ((صالون العقاد)) لم أشأ أن أتعرض بوضوح لغراميات العقاد. وإنما حاولت أن ألف وأدور، احتراما للمفكر الإسلامي العظيم عباس العقاد.. وأنا أعرف أكثر اللاتي اعترضن طريق الأستاذ، أو ترامين عند قدميه.. ولم أشأ أن أذكر بوضوح السيدة مديحة يسري ، ولكنها هي أعلنت أخيرا وصراحة أنها المقصودة من شعر العقاد وأنها كانت تتردد عليه وأنه هو الذي علمها كيف تقرأه وطه حسين.. إلى آخر الذي قالته، ومن الطبيعي أن تضع نفسها في حياة العقاد بالصورة التي ترتضيها وترفع شأنها، وقد بالغت كثيرا جدا. فالشعر الذي قاله عنها العقاد قليل، والذي قاله في الهجوم عليها كثير وشنيع جدا..
وكان الأستاذ العقاد عصبي المزاج، يكفي أن أحدا يتخلف عن موعده، ليثور عليه وكأنه ارتكب أعظم جريمة.. وفي غرفة نوم العقاد كانت لوحة بشعة رسمها الفنان الكبير صلاح طاهر وبها كل مشاعر الأستاذ العقاد للسيدة مديحة يسري.. وهذه قصة أخرى.
ولم يكن ذلك هو (( الحب)) الذي شغل العقاد وهز أعماقه ولكن كان الحب الذي أثار أعصابه.. والأستاذ العقاد أحب سيدة لبنانية وجعلها بطلة روايته الوحيدة ((سارة)) وهي ليست رواية بالمعنى التقليدي. أما مادتها فمن الممكن أن تكون رواية لكاتب آخر. فالعقاد أغرقها وأهلكها بالتحليلات النفسية. ولكن هذه هي المحاولة الروائية الوحيدة..
ومشكلة العقاد في الحب هي مشكلة آلهة الإغريق.. فآلهة الإغريق، كانوا يحقدون على البشر. إنهم يحبون ويتعذبون ويستمتعون بالحياة والخوف والأرق. أما الآلهة فهم لا ينفعلون فلا يحبون ولا يكرهون ولا يثأرون. ولذلك إذا أرادوا أن يكون لهم ما للبشر، فهم يحولون أنفسهم إلى بشر. ويحولون أنفسهم إلى حيوانات أيضا.. ليستمتعوا بعواطف الإنسان وغرائز الحيوان. ومشكلة العقاد أنه لم يشأ أن يكون بشرا عاديا. ولا يحب.. وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يجعل المحبوبة نصف آلهة.. لا يستطيع أن يرفعها إلى مستوى رأسه.. فكان ذلك هو عذابه الأكبر.. لا هو قادر على أن ينحني، ولا هي قادرة على أن ترتفع. ولذلك فلم يصادف العقاد واحدة ترضيه عقليا ووجدانيا. ومن هنا كانت نظرته إلى المرأة.. فهو يراها حيوانا ضيق الأفق أنانيا.. إنها لهذه الصفات سبب تعاسة العظماء..
على الرغم من أن الشعراء والأدباء في زمن العقاد –أي من خمسين عاما – كانوا يعرفون ويحبون ويعشقون ما لا عدد له من النساء، فإن أحدا لم يذكر ذلك صراحة....
بعض الشعراء نظم الكثير في زوجاتهم، حبهم الأول أو حبهم الأخير. ولكن كانت لهم نساء أخريات.. فليس مألوفا في أدبنا الحديث، ولا في أخلاقياتنا، أن يتحدث أحد عن امرأة يحبها ففي ذلك عيب عليه، وعار لها.. ولذلك سكت الرجال وسكت النساء أيضا!
حتى ظهرت في الحياة الأدبية في مصر فتاة جاءت من فلسطين: أبوها لبناني ماروني وأمها فلسطينية. إنها الآنسة مي زيادة (55 سنة). هذه الفتاة السمراء الجذابة هي التي أشعلت النار والغبار والدخان في ليالي القاهرة. أبوها صحفي. وكانت تكتب بتسع لغات. أديبة مفكرة شاعرة ثائرة معذبة أقصى وأقصى درجات العذاب. فقد كانت إنسانا غريبا في القاهرة في أوائل هذا القرن. لها صالون أدبي. وفي الصالون يلتقي كل أدباء مصر: العقاد وطه حسين وإسماعيل صبري وولي الدين يكن ولطفي السيد ومنصور فهمي وسلامة موسى وخليل مطران ومصطفى عبد الرازق ومصطفى صادق الرافعي. وهؤلاء الكبار ليس بينهم حب ولا ود. بل إنهم لا يحبون أن يكونوا معا في مكان واحد.
ولكن من أجل ((مي)) التقى كل الأضداد. ولا اعرف كيف كانت هي تلتقي بكل هؤلاء المفكرين. ولا كيف كانت توزع الاهتمام والاحترام والمودة بينهم بالعدل. ولا أعرف كيف كانت ترد على رسائلهم التي تكشف عن غضبهم، لأنها أبدت اهتماما بواحد أكثر من الآخر.. وكانت مي تضحك: إنهم أطفال كبار!
أما رسائل العقاد لها ورسائلها إليه، وعندي الكثير منها، فهي نوع من ((المشي على الحبل)).. فالعقاد شديد الاحتراس فيما يكتب. لأنه يعلم أن رسائله سوف تكون في أيدي الآخرين. فهي، مثل كل امرأة أخرى، ولا تحفظ سرا.. ورسائل مي إلى الأستاذ العقاد فيها تحفظ شديد.. وأحيانا لا تستطيع أن تضبط عواطفها، وهي تنبهه إلى أنها تود أن تقول أكثر، وأن تكون أقرب.. ولكن.. وهو يعرف ما الذي تقصده..
واحتفظ الأستاذ العقاد برسائلها إليه.. ثم أمر بحرقها. إما غضبا منها، وإما احتراما لها وكتمانا لسرها.. وإن كانت بعض هذه الرسائل لا تدل على أنها ((أحبت)) العقاد.. ولا أن العقاد ((أحبها)).. وإن كان الأستاذ العقاد قد اعترف بأنه أحبها. ولكن ((مي)) أصبحت غير قادرة على أن تستجيب لهذا الحب – فقد كانت تكبر الأستاذ العقاد بثلاث سنوات ، فقد ولدت في مدينة الناصرة سنة 1886 .
وعندما أعيد قراءة رسائله التي بعث بها إليها أجد أن الأستاذ العقاد تمنى أن يكون بينهما حب.. ولكنه لا يعرف على التحديد من هو الأديب الذي تحبه أكثر، أو من الذي تستريح إليه.. ولكنه يستبعد أن يكون أحبت مسيحيا مثلها، فهي شديدة التدين..
رجل واحد كانت الآنسة مي تضيق به ولا تحب أن تراه ولا أن تسمعه. إنه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي. فهو ثقيل السمع، وهو يجيء إليها من طنطا. ثم أنه شاع أنها تحبه، وأنه هو حبها الوحيد.. وكتب كثيرا جدا عن هذه العلاقة.. كتب أجمل ما قرأنا في الأدب العربي الحديث.. كتب الذي أحس به والذي تخيله. ولكن الذي كتبه شيء جميل جدا: السحاب الأحمر وأوراق الورود.. ورسائل الأحزان.. ونظم شعرا في حبها.. أو من خيالاته في عالم الحب. وليس لهذا الحب من واقع إلا في كتب الفنان مصطفى صادق الرافعي. وكانت مي لا تحب هذا التجريح والتعريض بها!
إن ((مي زيادة)) كشفت الحياة الاجتماعية والأدبية في مصر. فقد كانت أشجع بنات جنسها، خطيبة ثائرة من أجل حرية المرأة، الحرية التي لا تجدها هي، وحق المرأة في تقرير مصيرها، وهو ما لم تستطع أن تفعله.. ومن أجل أن تختار المرأة الرجل الذي يملأ قلبها وعقلها، ولم تستطع هي أن تختار أحدا..
والصالون الأدبي لم يكن معروفا ولا مألوفا في ذلك الوقت. وإنما هي نقلت هذا اللقاء الأسبوعي من أوروبا .. ولم يسجل لنا أحد كيف كان هذا الصالون وماذا يقال فيه.. ومن يقول.. وكيف هي تعلق على ذلك.. وكيف ينتهي الخلاف بين العقاد وطه حسين أو بين طه حسين ولطفي السيد أو بين منصور فهمي ومصطفى عبد الرازق وسلامة موسى؟ وكيف استطاعت ((مي)) أن تروض هذه الوحوش الأدبية وأن تحتفظ بهذا ((السيرك)) العقلي عشرين عاما..
وكأن هؤلاء الأدباء لم يكتفوا بتعذيبها بل تآمروا أيضا على قتلها فلم يكتب أحد عنها، ولا عن هذه الندوة الأدبية.. فكأن علاقتهم بالأديبة مي زيادة، علاقة مشروطة. إن هي كانت لواحد منهم، كتب عنها، وأقام لها كوخا في التاريخ إلى جوار قلعته الأدبية..إذن هي ((مؤامرة صمت)) – لا أحد يكتب عنها، لأنها كانت لكل واحد فيهم. فكان عدم تفضيلها لواحد على واحد، إهانة عنيفة لكل أديب ومفكر. فكل منهم يرى أنه الأديب وأنه المفكر. وأنه لا يقبل منافسة أحد. ولأنها لم تحب منهم، كان معنى ذلك أنها تراهم جميعا سواء. يستحقون المنافسة. فليست لأحد منهم مزايا تجعله إلها، وتجعل الآخرين بشرا، أو تجعله بشرا والآخرين كلابا!
إذن لم يكن مألوفا في أدبنا المعاصر أن يتحدث العاشق.. وإن تحدث فدون أن يذكر اسما ولا رسما ولا جسما.. ولكن أنه أحب..
ولم يعرف أحد إن كان صحيحا أن الشاعر الغنائي أحمد رامي قد أحب أم كلثوم وأحبته.. ولا إن كان الشاعر كامل الشناوي قد أحب نجاة الصغيرة وحدها.. فقد أحب،أو تخيل، أنه أحب المطربتين فايزة أحمد ونور الهدى. ولكن كامل الشناوي هو الذي جعلنا لا نصدقه محبا أو كارها. فكل مشاعره يغلفها بالنكت. فهو كما يشنع بالآخرين ، ففي مقدمة الآخرين: كامل الشناوي. فهو أكثر الناس تشنيعا وتشهيرا بنفسه. وأكثر شعر الغضب الذي نظمه كامل الشناوي كان عن ((نجاة الصغيرة)) ولم يكن غضبه عليها، بقدر غضبه على الآخرين حولها، أو بينه وبينها في الطريق إليها..
والشاعر عبد الرحمن صدقي نظم شعرا كثيرا وطويلا في زوجته الأولى.. وكان هذا الشعر اقرب إلى هجاء زوجته الثانية الإيطالية، التي لا تقرأ ما كتب ولا يهمها إن قال شعرا أو لم يقل.
ولم نعرف إلا أخيرا جدا من هو ذلك الرجل الذي كان قريبا جدا وبعيدا جدا. ومن ذلك المهاجر المهجور، من ذلك الذي يدور حول الأرض، ويدور حولها.. ومن ذلك الذي إذا رأى الشمس قال: يا مي .. وإذا رأى القمر قال: يا مي.. وإذا مرض أحس أن كل مرض له شفاء إلا حبها..
كان يكبرها بثلاث سنوات، ومات قبلها بعشر سنوات. فقالت مي : عندما مات أبي وأمي فقد مات نصفي، وعندما مات هو انتهيت!
إنه المفكر اللبناني جبران خليل جبران.
وفي العام الماضي ظهر كتاب بالإنجليزية عنوانه ((الشعلة الزرقاء- الرسالة الغرامية بين جبران خليل جبران ومي زيادة)). وفي الكتاب صور لرسائل باللغة العربية.. وصور لكل ورقة يجدها ويكتب عليها خواطره وأشواقه وأحزانه.. ويطلب إلى مي أن تلقي بها في المدفأة لعلها تضيف نارا إلى النار، أو لونا في لوحة الشتاء!
لقد عاشت ((مي زيادة)) فراشة وحيدة في بيتها تدور حولها مشاعل الفكر والأدب المصري تلسعها وتحرقها وتتركها تتعذب.. حتى انهارت ودخلت مستشفى الأمراض العقلية في بيروت.. وجاء الجنون يحمل عنها كل هذه الأعباء ويوفر عليها قراءة أولف الرسائل تبكيها وترثيها.. فقد غابت عن العقل، وغاب عنها العقل أيضا.
وصفت ((مي)) نفسها في رسالة إلى صديقة لها فقالت: استحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمر الهندي كما يقول الشعراء، أو كالمك كما يقول مجنون ليلى، وضعي عليه طابعا سحابيا من الوجد والشوق والذهول والجوع الفكري الذي لا يكتفي والعطش الروحي الذي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعا استعداد كبير للطرب والسرور، واستعداد أكبر للشجن والألم، وأطلقي على كل هذا المجموع اسم ((مي)) تري من يتحدث إليك الآن.
قال العقاد يرثيها:
شيم ((غر)) رضيات عذاب
وحجى ينفذ بالرأي الصواب
وذكـاء ألمعـي كالشهـاب
وجمـال قدسـي لا يعـاب
كل هذا في التراب آه من هذا التراب
وقال الشاعر شفيق معلوف:
بنت الجبال ربيبة الهـرم
هيهات يجهل اسمها حـي
لم نف سحرا سال من قلم
إلا هتـفنـا: هـذه مـي!
وقال خليل مطران:
أقفـر البيت أين ناديك يا مي
إليـه الـوفود يختـلفـونـا
صفوة المشرقين نبلا وفضلا
في ذراك الرحيب يعتمـرونا
فتساق فيه البحوث ضـروبا
ويدار الحديث فيـه شجـونا
ونعيب القلوب وهي غـراث
من ثمار العقول ما يشتهـونا
وقال العقاد:
سائلـوا النخبـة من رهط النـدى
أين ((مي)) هل علمتـم أين ((مي))؟
الحديث الحلـو و اللحـن الشجـي
والجبين الحـر والوجـه السنــي
أين ولـى كوكبـاه؟ أيـن غـاب؟
وقال إسماعيل صبري:
روحي على دور بعض الحي حائمة
كظامـئ الطيـر تواقـا إلى المـاء
إن لم أمتـع بـمي ناظـري غـدا
أنكـرت صبحـك يا يـوم الثـلاثاء
وفي الآداب العالمية أديبات عشقن الأدباء والفنانين – ولكن في غير عفة.. أي في غير عذاب.
كانت أديبة فرنسا جورج صاند أحبت وأحبها الشاعر الفرند بميسيه والموسيقار البولندي شوبان.
وكانت (( سالومي)) – قد أحبها عالم النفس فرويد والفيلسوف نيتشه والشاعر ريلكه.. فكانوا عشاقا، وكانت عشيقة.
وكثيرات في كل العصور..
إلا ((مي)) فكانت لعصر كامل.. ولم تكن لأحد.. ولم يكن لها أحد.. كانوا قريبين جدا، وكانت بعيدة جدا..
عاشت في خيالهم، فلما ماتت كانت وحدها!
منقول من كتاب ( إتنين .. إتنين )
لــ أنيس منصور
أعتذر لعدم استطــاعتي استكمال أحبائها كما ذكرت سابقا، لكن في المرفق كتاب "مي زيادة أسطورة الحب والنبوغ" لـ نوال مصطفى وهو كتاب ذو شجون!