إلى المهاجرة التي كانت وراء حضوري إلى هذا الموقع






هل جربت أن تعري نفسك ؟.. هل فتحت يوما جبهة ضد ذاتك و اخترقت المتاريس التي تختفي خلفها وجعلتها مكشوفة بلا غطاء ؟


ماذا يصنف فعل كهذا ؟ .. جرأة ؟.. مصالحة ؟.. خصام ؟.. تطهر ؟.. انتحار ؟. ثم ما الذي يدفع الإنسان على الإقدام على مثل هذا الفعل علما أن كل ما ترسب في داخله من خبرة و تجارب لم تعلمه غير إخفائه...

شهرة ؟.. متعة ؟.. البحث عن انسجام مفقود ؟.. انتقام من نفس مغرورة ....

كيف يعيش الإنسان حياته بعد أن تنتهي المصارحة وتنزاح عنه الأنظار ؟ ألن يعيش عقدة أخرى مع ذاته ؟ هل يتمكن بعد ذلك من فتح الأبواب ليعود إلى عالمه القديم الذي غادره قبل أن تهب عليه رياح الإعصار ؟..هل يتمكن من العودة إلى الحياة العادية ؟..


أسئلة كثيرة جالت بخاطري و أنا أفكر في فتح هذا الملف الذي كان محكم الإغلاق في ذاكرتي . تساءلت للمرة الألف عن جدوى ما سأقوم به ، خصوصا أن ذلك ما عاد له أية صلة بحاضري ، و لا أجد أية أهمية لما سأحكيه خصوصا و أن ذلك لم يكن تصرفا معزولا عن ما جرى على ارض الواقع .

لكني أعود لأتساءل ما إن كانت هناك ظروف مشابهة تتظافر اليوم لتشكل إعصارا جديدا قد يترك هو الآخر ضحايا . و بالتالي تكون هذه الاعترافات تنبيها و تحذيرا لما يمكن أن يحدث ... و أخيرا ما مقدار مسؤوليتي فيما حدث ؟.. ماذا كنت فيما عشته ؟.. ضحية ؟.. جلاد ؟...و الآخرين الذين زجوا بي في ذلك العالم الرهيب هل كانوا هم الآخرين ضحايا ؟...

مهما يكن فالحكاية ابتدأت عند منتصف طفولتي . لا شئ على الإطلاق كان ينبئ على أني مقدم على إعصار سيعصف بي بلا رحمة ، وسيدمر كل شئ سام فيها
.
المحيط الذي نشأت فيه كان على العكس مما كنت مقبل عليه .فالوسط الذي كبرت فيه أصر ومنذ القدم على أن ينتج نوعين من الرجال . الفقهاء و المقاتلين . والرقعة الجغرافية التي عشت فيها حبلت بعشرات الأضرحة و الأولياء . والوسط تميز باحترام شديد لكل ما له صلة بالدين .

لكن الزمن كان يسير بوثيرة سريعة لم تتمكن الهياكل القديمة على مجاراتها ، و لم تجد بدا من التخلف عن الركب و بالتالي صارت بعد مدة خارج الزمن.

على العكس من ذلك كانت المدرسة العصرية قد همشت كليا التعليم الديني الذي كان سائدا من قبل . فتغير أسلوب الحياة و انفتاح المجتمع على آفاق جديدة و المكانة الاجتماعية التي صار خريجوها يتمتعون بها ، كل هذا جعل الجميع يتهافت على خدمات المدرسة التي صارت السلم الوحيد للرقي اجتماعيا بالنسبة للفئات الدنيا . و الجميع صار ينظر إليها كمخرج و بالتالي صبغ عليها نوع من القداسة ، غير مهتمين بما يجري داخلها.


سنواتي الأولى فيها كانت عادية و منسجمة مع الجو الذي عشت فيه من قبل ،و لم أحس بأية قطيعة ،وما حصلته فيها كان متجاوبا مع طموح كائن كانت تطلعاته أكبر من المحيط المعزول لقرية مفقودة في رحاب ضائعة.


مادة التاريخ كانت رحلات حقيقية إلى عصور الإشراق .

الأسماء الكبيرة حفرت أعمق مكانة لها في القلوب .وهنا لا بد أن أشير إلى ان مدرس هذه المادة كان استثنائيا بكل المقاييس .ربما كان الوحيد الذي التحق بالمهنة بعد خضوعه لتدريب .

وهذا يعني أن جل المدرسين صاروا كذلك بالصدفة لأنهم كانوا في تاريخ معين يعرفون القراءة و الكتابة .

مدرس مادة التاريخ كان قد حمل جديدا بالفعل تمثل في خطاب و تعامل جيد منفتح ، فيه أوسع مكان لطفولة ما كان لها مكانا و لا حضورا في تفكير الكبار .

الأقسام كانت عبارة عن مخافر ومراكز للتعذيب . و التواطؤ كان يتم من قبل جميع الأطراف . المدرسة والبيت .كل الأهداف كانت نفعية و الغاية تبرر الوسيلة .

معلم التاريخ كان جزيرة داخل محيط هائج يعرف مناخا قارا . دروسه كانت عروضا مسرحية . كل شئ يستغل بمهارة متناهية .
الصوت كان يسمع عاليا في لحظات الحسم و اتخاذ القرار ويلين في لحظات الحوار أو التأمل ، و الحركات كانت ترسم بيانات تعبر عن ما يتأجج في الداخل ، اللغة ...
اذكر أننا كنا نتصايح فرحا حين كان المسلمون يحققون نصرا في غزوة لهم ن كما اذكر أن كل من في القسم بكى حين انهزم المسلمون في أحدى الغزوات
..
إلى ذلك الحين كنت لا أزال أسير في الطريق الصائب .


لكن حلول السنة النهائية من التعليم الابتدائي بعثرت كل الأوراق وعصف بكل ما ترسب في ذاكرتي من قبل.

الزمن كان نهاية الستينات و بداية السبعينات . المد التحرري الذي اجتاح العالم الثالث بأسره كان في الأوج .و الأفكار اليسارية التي طبعتها الماركسية كانت قد حققت أوسع انتشار لها حتى أن أي مثقف غير يساري لم تكن لتباح له الفرصة للتعبير عن وجهة نظر معاكسة . و الرجعية و التخلف صارت سمة كل من لا يعتنق الفكر الماركسي .

بمقابل هذا كان هناك زحف من نوع آخر . الغرب و بعد حربه الاستعمارية ، و بعد ترسيخه للتبعية الاقتصادية عمد إلى شن حرب جديدة عرفت بــ "الغزو الثقافي". وقد هدفت الحرب الجديدة إلى تهميش الثقافات المحلية ودفع الناس إلى تبني الثقافة البديلة على اعتبار أن الأولى متقادمة و لا تساير العصر.

الرياح كانت تهب من كل صوب ، وأي تقدم لجهة ما اكن يعني تراجع الثقافة الأصلية وتراجعها.

بالنسبة لي كنت في هذه المرحلة عند نهاية طفولتي الثانية ومقبل على فصل ساخن من مراهقة لم تكن عادية .

المراهق يواجه أول ما يواجه البحث عن إثبات الذات وإفهام الآخرين انه لم يعد طفلا .

اعتراف لا ينتزع بسهولة خصوصا إذا كان المطالب بهذا الأخير يظل ينظر لمن هو اصغر منه على انه صغير حتى و لو عمر دهورا . المراهق من اجل أن ينتزع هذا الاعتراف يضطر إلى أن يدوس كل شئ بما في ذلك المثل التي يقدسها الكبار . ومن ثم قد ينفجر صراع قد يضيع فيه كل شئ . لكن ما علاقة هذا بما سبق ؟

في نهاية مرحلتي الابتدائية كان لي مدرسان .مدرس اللغة العربية وقد كان من دعاة الاشتراكية . ومدرس اللغة الفرنسية وقد كان علمانيا صرفا.


التغيير الكبير الذي غير مسار حياتي وطبع حياة كل من تتلمذوا هناك في تلك الفترة كان لمعلم اللغة الفرنسية . كان معوقا . عاش في الحضيض فسبب وضاعة مستوى أسرته. وكان من الفئة التي لم تجد أسرته ما تدفعه كرشوة من اجل إخراجه من المدرسة استجابة للنداء الداعي لمقاطعة المدرسة الاستعمارية .

حين تخرج كمدرس مارس في سلوكه عدوانية لا توصف ، وكراهية لكل موروث . كان قاس وغليظ الطبع . ولأن المجتمع كان هو الآخر عنيفا فقد صار هو المدرس الممتاز مادام يمارس اكبر قدر من العقاب و اشد أنواع القصاص . وبذلك رسم لنفسه سطوة فاقت كل تصور وجعلت كلمته لاتعلوها كلمة
و آراؤه لا تخضع لأي جدال ، و أفكاره تؤخذ على أنها الحقيقة التي لا تسمو عليها حقيقة أخرى .

من هذا الموقع انطلق يهدم ما ترسب في العقول ويبشر لمدنيته الجديدة . كان من أشد المعجبين بـ "أتاتورك" . حكى عنه مئات القصص التي تمجده وتنوه بفكره ، وتصور اصطدامه مع الفكر القديم الذي لم يكن غير الإسلام من حكاياته التي لا زالت محفورة في ذاكرتي هذه كمثال.




"
تولى زعيم من الزعماء الحكم في إحدى الدول الإسلامية . وانصرف يفكر في تقدم بلاده.لا حظ في هذا الصدد أن الناس لا يعملون و يصرفون كل أوقاتهم جالسين في الأحاديث الفارغة أو في المساجد وينتظرون من الله أن يفعل شيئا من اجلهم . فاستنتج أن الإشكال سببه الدين ، وهو المسؤول عن التأخر و التخلف .

فكر في حل ثم استدعى جميع من يعتبر عالما لدى عامة الناس . فجمعهم و ذهب بهم إلى سفح جبل . وطلب منهم أن يبذلوا كل ما في وسعهم لكي يتهدم الجبل ، وأمهلهم لبضعة أيام . وهي مدة قضاها العلماء في الذكر و دعوة لله كي يستجيب ويهدم الجبل . وحين انتهت المهلة . عاد الزعيم ووجد الجبل على حاله . فأصدر أوامره للطائرات و الدبابات أن تقصف الجبل . وما هي إلا ساعات حتى كان الجبل قد سوي بالأرض . وبعد ذلك سأل الزعيم العلماء : هل القرآن ودعواتكم هي التي هدمت الجبل ؟

من ذلك اليوم أمر الزعيم بإغلاق المساجد و تغيير كل شئ بما في ذلك الزي الذي يوحي بالدين أو الماضي.

"



تصوروا وقع كلمات و حكايات كهذه في زمن ما كان يحتاج أصلا إلى ذلك ..وتصوروا مدى التأثير الذي يمكن أن يمارسه هذا على أطفال مقبلين على مرحله صعبة كانوا في الأصل يبحثون عن تميز ليثبتوا أنهم ما عادوا صغارا.



لندع الآن معلم اللغة الفرنسية و لننتقل إلى معلم اللغة العربية

معلم اللغة العربية لم يكن ليساوي شيئا في ظل تواجد معلم اللغة الفرنسية . فهو لم يكن قاسيا من جهة ، وحتى لو كان العكس ، فقد كنا قد تعلمنا أن نحتقر كل ما يمت لواقعنا بصلة .

فالإنسان الناجح و الطفل المجتهد كانت الكتب المدرسية تصوره يلبس لباسا عصريا عكس الإنسان البليد و التلميذ المتخلف فهو يلبس جلبابا و يضع على رأسه عمامة أو قلنسوة . أي انه لم يكن سوى نموذج منبعث من تاريخنا وواقعنا . و لهذا ودون أن ندري كان قد ترسخ في دواخلنا احتقار لكل ما يمت لنا بصلة وتعظيم كل ما يفد إلينا من الخارج .

تأثير معلم اللغة العربية كان ينطلق من أرضية أخرى لكنها أكثر صلابة . لأن ما كان يدعو إليه كان له انعكاس مباشر على أوضاع حياتنا .وتتجاوب مع طموحات واقع بئيس . في كل مناسبة كان يتحدث عن مجتمع تذوب فيه الفوارق الطبقية لتسود العدالة الاجتماعية . أفكار كانت تبهر . لكنها ما عادت مجرد أفكار . صارت طموحا وبديلا لمجتمع يعمه الظلم الذي يزكيه الدين .

لم نكن ندرك التفاوت الحاصل بين أفكار معلم اللغة الفرنسية ومعلم اللغة العربية . لكن كان هناك إجماع على أن الدين مادة قديمة لا تصلح للعصر




.............................. ................. يتبع