[ALIGN=CENTER]النقد الموضوعاتي الأسس والمفاهيم ـــ د.محمد بلوحي – الجزائر

الموضوعاتية كما اصطلح عليها النقاد هي: اتجاه نقدي ظهر كرد فعل للتأثيرات الوجدانية، والتأملات الميتافيزيقية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. والموضوعاتية في النقد تعني وصف عناصر الأثر بشكل يتفق مع وجوده في العالم الواقعي والخيال.

إن لفظتي Objet Théme في الفرنسية يستوعبان في أصل المعنى نفسه، ولكن الأولى ذات أصل يوناني والثانية ذات أصل لاتيني... فكل ما هو Théme بوصفه موضوع تفكير أو تأمّل أو نظر، هو Objet. وكل ما هو Objet هو Théme لأنه قابل لأن يكون موضوع تفكير أو تأمّل أو نظر.. ولكن Objet تتقابل مع Sujet. ولا تستطيع كلمة Théme أن تحقق هذا التقابل. ومن هنا يبدأ هذا الالتباس في الكلمة العربية "موضوعية" والتي تتضمن المعنيين. ولكن السياق في أغلب الأحيان كفيل بتمييز المراد من هذه الكلمة. فإذا عجز السياق عن توفير هذه الضمانة وضعنا المقابل الفرنسي Objectivité إلى جانب الكلمة العربية "موضوعية" في كل مرّة تعبر فيها عنها، وتركنا الكلمة العربية منفردة من غير مقابلتها الفرنسية حين تعبر عن Thématique وذلك كما فعلنا في الكتاب الذي بين أيدينا. ويبقى استخدام أية كلمة من الكلمات العربية الثلاث "موضوعية ـ مواضيعية ـ موضوعاتية" مشروعاً ومعبراً عن موقفنا من اللغة. فإذا طلبنا التكثيف والاقتصاد في اللغة اتجهنا إلى استخدام كلمة "موضوعية" دون أن نرى فيما تثيره من التباس أية عقبة. وكل من يطلع على مفهوم "شكل المضمون" في هذه الدراسة يجد المسوغ الكافي لهذا الموقف. وإذا طلبنا التوسع اللغوي من أجل التحديد والفصل بين المعنيين اتجهنا إلى إحدى الكلمتين "مواضيعية" أو "موضوعاتية" على ما فيهما من ثقل بَين(1)، ومن ثم فادعاء القول الفصل في الترجيح بين أي من المصطلحات الثلاثة فيه من الصعوبة بمكان؛ إلا أننا نجد أن استعمال الاصطلاح الموضوعاتي أو التيمي. استعمله "جين بول ويبر" في معنى خاص، أطلقه على الصورة الملحّة والمتفرّدة والمتواجدة في عمل كاتب ما.

إن الخوض في التفصيل في المفاهيم الأساسية للقراءة الموضوعاتية يقتضي منا التعريج على تعريف مركز لمعنى كلمة "أدب" نظراً للارتباط العضوي بين الموضوعين. فالأدب كما عرّفه الفيلسوف الإيطالي "بيك دولاميراندول" هو: ((سُلّم ننزل دَرجاته حيناً فنمزّق وحدته بقوة عملاقة، ونفتتها على غرار ما حلّ بجسد "أوزيريس"، ونصعد درجاته حيناً آخر، بكل ما تمنحنا إياه طاقة "أبولون"، نجمع في وحدة جديدة ما تبعثر من أشلاء أوزيريس))(2)، أوليس لنا أن نستخلص من جملة ما يمكن استخلاصه من التحديد السابق للأدب أنّ أبولون في علاقته بأوزيريس إنما يمثل علاقة الناقد بالشاعر؟.

إن البداية في طرق أيّ موضوع تأتي من هذا الموضوع ذاته لتتوزع إلى فروعه، باعتبار أننا إذا أردنا أن نستمد من الكل "Le tout" نمطاً للحياة جديداً مبتكراً فيه الأصالة والجدة، فعلينا أن نبصر هذا الكل في أصغر الأشكال فيه، ومن ثم ندرك أن الانطلاق من الجزئي إلى الكلي هو المفضي إلى الحقيقة؛ وتالياً فإن النقد الموضوعاتي لا يهتم بالمجال التاريخي الذي أثّر في المبدع، بل يدرس النّص من خلال علاقاته الدّاخلية.

وهذا المسعى هو الذي تحاول القراءة الموضوعاتية أن تؤسس له قناعة منها هذا النمط من الطرح الذي تتبناه القراءة الموضوعاتية يسعى في مقاربته للعمل الأدبي إلى الكشف عن بنيته التي تعبر عنها بعض الثوابت الشكلية والأنماط البلاغية المشكلة لمظاهر أسلوبية بارزة ومن وراء هذه الأشكال تهدف القراءة الموضوعاتية إلى اكتشاف البنية العميقة للخيال المبدع؛ الخيال المادي الذي لا يعني به المادة بقدر ما هو تصوير للمادة في الفكر، ينضاف إليه الوعي الذي يتقابل مع الشيء.

تعتقد القراءة الموضوعاتية أن الموضوعات والصور التي يصفها هذا المبدع أو ذاك إنّما توجد منذ بواكيره، وعلى القراءة التقاط هذه الموضوعات وتلك الصّور من ينابيعها لكي تحدد الجغرافية الأسطورية عند هذا المبدع أو ذاك؛ ومن ثَم لا بد من متابعة هذه الموضوعات، ومراقبة تطوراتها أو تلاشيها في النص، وبذلك تسعى القراءة الموضوعاتية إلى الوقوف على "الفعل البدئي" في النص الذي ماهيته تكمن في إعادة الصور إلى العنصر الأصلي الذي تنتمي إليه النصوص الإبداعية، وهذا ما يبين لنا مدى التواصل الكلي بين المنهجين: الموضوعاتي والنفسي.

تختلف مضامين الأعمال الأدبية في أهميتها، وما دام الموضوع يتجسّد ضمن مسارات العمل الأدبي شعراً كان أم نثراً، فذلك إنما يجسّد رغبة هذا الأديب في هذا الشيء، واهتمامه الكبير به، ولعلّه يوحي بمصداقية هذا الموضوع في خضمّ هذا الكم الهائل من المفردات، وكأن الأجزاء جميعها تجتمع إلى هذا الموضوع، وتسيل مجاريها منه، فتصير الألفاظ والعبارات عبارة عن أعضاء جسد الإنسان، فكلما تخلّف عضو أو نقص، نقص معه المراد أو المحتوى، الذي يشكل ذلك التفرّد الفكري الذي يأخذ عقل المبدع إلى حيثياته الدّفينة.

لاحت في أفق النقد الغربي المعالم الأولى للموضوعاتية البنيوية الذي مثل كل من: بيديي وبارت وغريماس وجون بيار ريشار بفرنسا... وغيرهم الرواد الأوائل الذين أسسوا لها، معتقدين أن الطرح الذي تحمله الموضوعاتية البنيوية يكمن في أنها ((مكان لتأسيس مركز ثقل (فهو مركز خطورة العمل) أي المكان الذي يشرحه القرار المتزن للناقد، أي أن النقد الموضوعاتي: يعالج تحت غلاف البنية، قضية "الوعي الاختزالي"(3)؛ ومن ثم ندرك أن النقد الموضوعاتي مهمته مهمة مؤسسة ومركزية، إذ أن استمرارية العمل الأدبي وتواصله وتطوره مرتبط بالمحافظة على النواة الأصلية لهذا العمل والتي تعبر عن الوعي الاختزال؛ ومن ثم كان الموضوعاتي مكاناً لتأسيس مركز ثقل ومركز خطورة العمل الإبداعي.

أسست القراءة الموضوعاتية في صلتها بالمنهج النفسي انطلاقاً من بعض الأعمال النقدية، وبخاصة في المقاربة التي قام بها باشلار "شاعرية الحلم"، وفيها تقصٍ علمي رصين لمعرفة المعرفة، وملاحقة فينومينولوجيا الأشياء والكلمات، فأدخل الأستمولوجيا في حلقة العلوم الإنسانية، مع التوظيف الواعي للتحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، وقد جسد أطروحاته هذه بشكل واع في كتابه "La formation de l'esprit scientifique"(4)؛ إذ يختار باشلار الفينومينولوجيا لمعالجة الصورة المحببة إلينا بنظرة جديدة تجعله لا يعرف هل يتذكر هذه الصورة أم يتخيلها؟. ومن هنا تبرز ما أسماه باشلار بـ "المقصدية الشاعرية". وفي الجانب المقابل يأتي جورج بولي باعتماده عنصري: الفضاء والزمن. ويتجلى هذا من خلال دراسة حول الزمان الإنساني 1950 والفضاء البروستي 1963.

بينما يُموضع ستاروبنسكي تحاليله داخل أعماق تفترض معرفة جيّدة بالنظريات الفرويدية، إذ يصبح الخفيُّ هو الوجه الآخر للظهور والحضور، وتصبح سلطة الغياب سلطة الأشياء الواقع، تشير إلى فضاء سحري لانسياق نظرتنا وراء فراغ يتشكل في الشيء المغري، واعتمد ستاروبنسكي على "النظرة" ضمن أعمال روسو وكورني وراسين في استيعاب الأعمال التي طبّقها فرويد على النقد الأدبي باعتبار أن النظرة تعبير عن كثافة الرّغبة.

يمكن القول أن فكرة "الوعي المختزل" التي أتى بها باشلار، قد يصعب إدراكها ما دام الإدراك يحتاج إلى معرفة حالة المدرك، بيد أنّ تلك الأدوات الإجرائية والعلوم المعرفية التي استند عليها باشلار قد تكشف النقاب عن تلك الحقائق المكنونة في ما وراء السطور، والتي تعني في واقع الأمر ذلك المراد الذي يأبى إلا أن يختزن ويختزل في فوانيس الكلام؛ وبذلك يمكن القول أنّ الاقتراب من الوعي الخفي، هيّأ له أصحاب المنهج الموضوعاتي الظروف المواتية؛ من أجل سبر أغواره، ومعرفة كنهه من خلال: الفينومينولوجية، علم النفس، الأنثروبولوجيا، البنيوية، اللسانيات.

يأتي إدمون هوسول ـ ومن خلال هذا التزاوج الذي لمسناه بين الموضوعية والتحليل النفسي ـ بفلسفته "الظواهرية" هذه الأخيرة التي تفصل بين المنطقي "La logique" والنفساني "Psychologique". والشيء عند هيوم يتحدّد بحسيّته، بينما يتحدّد عند هوسول بمماثلته لنفسه عدَدِياً في ظهوراته المتعدّدة على الوعي وفي ذلك يقول هوسول: ((كلّ وعي هو وعي بشيء ما))(5)، فالوعي عند هوسول هو وعي الذات بموضوعها، وتوجّه الذات نحو الشيء الذي تريد أن تعيه هو ما نسميه بـ "القصدية"؛ إذاً: فكل ما يتجه نحو القصد يُصبح موضوعاً للوعي فالوعي الهوسولي هو وعي الذات بالموضوع؛ وهذا ما دفع هوسول إلى التمييز بين نوعين من الأنا:

1ـ الأنا النفساني الذي يهتم بالعالم والتجربة.

2ـ الأنا المتسامي: يتفرج على العالم دون أيّة مصلحة.

يأتي ـ هنا ـ مبدأ "الاختزال" La véduction، الذي يبعد كل ما هو تجريبي للوصول إلى الجواهر، والوصول إلى الجوهر "Les essences" ووصفه، هو الذي تأثر به ريتشار واعتمده في تعامله مع النصوص الإبداعية، فالوصف أحد أهم المفاتيح لاستيعاب المنهج الموضوعي.

الظواهر عند هوسول هي الوصف النفساني المحض لأفعال الفكر التي نصل عن طريقها إلى الأشياء المنطقية؛ أما الوصف النفساني فهو "الأنا" المهتم بالعالم الخارجي؛ وأما أفعال الفكر فهي الوعي التجريبي الذي لا يتبقى منه في عملية الاختزال إلا القصدية؛ وأما الأشياء المنطقية فهي المفاهيم التي تعيش مع الأنا المتسامي. ويمكن أن أمثل للظاهراتية بالشكل التالي:



تهتم الظاهراتية ـ انطلاقاً مما سبق ـ بالظواهر التي يتجلى فيها الواقع من أجل الوصول إلى الجوهر فمثلاً: اللون الأبيض ليس وقفاً على الثلج، ولكننا نلمحه في القطن وأوراق الكتاب والزبدة وغيرها كثير: فاللغة تأتي لتعبّر عن هذا اللون بالمفردات الخاصة بها.

فتلك المفردات هي:? مظاهر تتجلى في جوهر ? واحد هو: "الأبيض".

وهذا شأن الظواهر في أنها تبحث عبر المظاهر للوصول إلى الجواهر؛ وطريقتها هي الوصف ومبدؤها الاختزال.

تستفيد القراءة الموضوعاتية من الظواهرية بما تحمله من بنية تعدّدية، وعليه فالدّراسة الموضوعاتية تتجه نحو دراسة الظُّهورات المتعدّدة للموضوع الواحد من أجل الوصول إلى البنية الشفافة في النهاية "البنية المفهومية"، ومعرفة الابنية الكلية التي يمتد في معناها النص تفضي بنا إلى ما يسمى بالموضوع.

انطلق فان ديجك ـ من هذا المنطلق ـ في نظريته في كون المعنى الإجمالي هو في النص ما يطلق عليه باسم: الموضوع "Théme ou Sujet" ويتضح المفهوم النظري الذي سيستعمل لوصف هذا المعنى الإجمالي، أي مفهوم الموضوع المسيطر على النص، أو الممتد عقب وحداته، ومن هنا يطلق فان ديجك بـ: "البنية الكبرى الدلالية" (Macrostructure).

والبنية الكبرى ـ على حسب فان ديجك ـ تتكون من قضايا، وهي إضافة إلى ذلك تعرض الوقائع على مستوى "أعلى" و"أكثر تجريحاً" "أعم" أو "أشمل". فمثلاً قولنا: "ذهبت إلى المحطة" "اشتريت تذكرة" "توجّهت إلى ساحة المحطّة" "ركبت في القطار". فيمكن وصف هذا الحدث على مستوى أعم بواسطة القضية التالية: "قمت برحلة في القطار".

تتغير البنية الكبرى من شخص إلى آخر، لكن بالرغم من ذلك فسوف يظهر من التفسير الإجمالي لأحد النصوص وجود توافق كبير نسبياً بين مستعملي اللغة، فتكون البنى الكبرى ذات اختلاف جزئي من شخص لآخر غير أنّ مبادئ تكونها هي ذاتها؛ وترتبط البنية الكبرى بالقضايا المعبّر عنها بجمل النص بواسطة ما يسمى: القواعد الكبرى (Macrorégles). فهذه القواعد تحدّد ما هو الأكثر جوهرية في مضمون نص متناول ككل، ومن ثم نجد أن القواعد الكبرى تلغي بعض التفاصيل وتقصر تفاصيل النصوص على الأساس؛ إذ قد نلخّص الصفحة الأولى لرواية ما بقضية واحدة، كما يمكن أن نلخص ـ كذلك ـ القضايا الكبيرة المكوّنة من صفحة إلى أخرى ومن فصل إلى آخر، ومن ثم تتحوّل بدورها بواسطة القواعد الكبرى إلى قضايا كبيرة: "أعلى مرتبة". وتبعاً لذلك يمكننا التمييز بين موضوع مقطع ما وموضوع فصل ما أو رواية كاملة؛ والبنية الكبرى لرواية متناولة بكاملها تسمّى عادة "عبرة العمل الإبداعي".

تبنى هذه العملية على قواعد كبرى يمكن تحديدها في ما يأتي:

1ـ الحذف أو الاختيار: تحذف من متتالية قضايا جميع القضايا، التي ليست شرطاً لتفسير القضايا اللاحقة في النص أو: اختيار القضايا التي هي شروط تفسيرية.

2ـ التعميم: استبدال متتالية قضايا بالقضية التي تنطوي عليها كل واحدة من قضايا المتتالية مثلاً: مريم تلعب بالحبل، يوسف يلعب بالكرة، سعيد يلعب بالدمية... ? الأولاد يلعبون بألعابهم.

3ـ التركيب: استبدال متتالية قضايا بقضية تحيل إجمالاً إلى الحدث ذاته الذي تحيل إليه قضايا المتتالية برمّتها. وعلى سبيل التوضيح، يمكننا أن نكرّر هنا مثل الرحلة في القطار المعطى أعلاه.

هذه القواعد المعروضة بصورة مبسّطة تماماً، لا يمكن أن تعمل إلاّ على أساس معرفتنا للعالم؛ ذلك أنه لو لم نكن نعرف أنّ الرحلة في القطار تقتضي الذهاب إلى المحطة وشراء تذكرة لما أمكننا استبدال كل التفاصيل بفكرة "رحلة في قطار".

مما سبق ندرك أنّ مفهوم البنية الكبرى هو مفهوم نسبي، فالقضية ليست أبداً بحدّ ذاتها قضية كبيرة. إنما هي كذلك دوماً بالنسبة إلى القضايا "الصغيرة" التي تشتق منها بواسطة قواعد كبرى؛ هذا يعني أنّ القضية ذاتها يمكن أن تكون قضية كبيرة في نص ما وقضية صغيرة في نص آخر؛ وغالباً ما يذكر موضوع النّص في النّص عينه؛ في هذه الحالة يعبّر عن قضية كبيرة مباشرة في النص بواسطة جملة موضوعية "Phrase thématique".

إن الخيوط التي شكلت المناخ الثقافي للموضوعاتية. إنما يتجلى في وجودية سارتر، التي استطاعت في الخمسينات إعادة تحديد المواقف اتجاه الإنسان والوجود واللغة والأدب؛ كما أنّ وجودية سارتر سبقت بفترة زمنية فلسفة الظواهر أو ما عرفت بـ "الظاهراتية" "Phenomenology"، لإحداث تأثيرات ملموسة في المناخ الفكري الغربي؛ بحيث ((طوّر أتباع الفلسفة الظاهراتية، خاصة أعضاء مدرسة جنيف النقدية، نظرية أدبية تقول بأن الأدب شكل من أشكال الوعي، أمّا النقد فهو عملية شفافية متبادلة بين وعيين: وعي المؤلف المبدع ووعي الناقد الذي يجب أن يخلي ذهنه تماماً من صفاته الشخصية حتى يتحقق الالتقاء التام مع وعي المؤلّف... لقد كانت نقطة الانطلاق الحقيقية للظاهراتية أنّ الفكر الإنساني قد وصل في مطلع القرن العشرين إلى طريق مسدود، بعد أن تجاهلت العلوم دور الذات المدركة وتأثيرها في معرفتنا بالعالم، وفي نفس الوقت فإن الانهماك في الدّراسات النفسية قد يؤدي إلى درجة من الذاتية غير مرغوب فيها. ومن ثمّ أراد هوسول بأن تصبح الظاهراتية عِلماً للوعي يصف عمليات التأثير المتبادل بين الذات والعالم))(6)، وهذا ما أحدث نوعاً من التوازن في ظاهراتية هوسول بتوازن دقيق بين مثالية كانط التي ترفض كل ما هو خارج العقل، وبين تجريبية العلم التي تجاهلت دور الذات المدركة في معرفة العالم أو إدراكه؛ وفي خضمّ هذا التوازن الذي ينادي به هوسول يطور بعض تلامذته مثل: رومان إنجاردن فكراً مماثلاً، عند حديثهم عن طبيعة الأدب، فهم يرفضون النظر إلى النص الأدبي باعتباره شيئاً مثالياً صرفاً أو كياناً مادياً خالصاً ويقترحون بديلاً ينظر إلى العمل الأدبي باعتباره شيئاً أو موضوعاً مقصوداً.

الأسس الكبرى للموضوعاتية:

1ـ الموضوع: يتحدد مفهوم الموضوع كأساس جوهري في بلورة الرؤية الأساسية للموضوعاتية من أنه مبدأ تنظيمي محسوس، أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت يسمح لعالم حوله بالتشكل والامتداد، والنقطة المهمة في هذا المبدأ، تكمن في تلك القرابة السرية في ذلك التطابق الخفي والذي يراد الكشف عنه تحت أستار عديدة... الموضوع وحدة من وحدات المعنى وحدة حسيّة أو علائقية أو زمنية مشهود لها بخصوصيتها عند كاتب ما. كما أنها مشهود لها بأن تسمح، انطلاقاً منها وبنوع من التوسّع الشبكي أو الخيطي أو المنطقي أو الجدلي، ببسط العالم الخاص لهذا الكتاب، بينما القاموس المختص في علم اللغة الفرنسي يحدد الموضوع بربطه مع الجذر اللغوي La racine، فالموضوع هو الجذر اللغوي بعد أن تنضاف إليه الحركات التي تجعل منه معنى))(7). فمثلاً في العربية نقول إن الجذر اللغوي "ك. ب. ت" عبارة عن أصوات "Des phonémes" لا معنى لها ما لم توضع عليها الحركات، فإذا حركتها كها بالفتحات أعطت فعلاً ماضياً، وإذا حركت أولها بالضم وثانيها بالكسر، أعطت ماضياً مجهولاً، فالمعنى يرتبط في الجذر بالحركات التي تحدّده.

أمّا القاموس الفرنسي "La land" يعطي تحديدين للموضوع، في الأول يظهر الموضوع على أنّه مسألة معروضة للتأمل أو التطوير أو النقاش؛ أمّا في الثاني نرى مقاربة مع جانب التطوير الذي رأيناه في التحديد الأول. واعتماداً على هذه المقاربة يصبح الموضوع ما يوجّه تطويراً عضوياً دون ادعاء بتحديده مسبقاً بشكل كلي. إنه يوجه ولكنه يقبل الصيغ العديدة التي يمكن أن يأخذها هذا التصوير العضوي تبعاً للظروف أو تبعاً لما يمكن أن يصيبه من إجهاض في بعض جوانبه.

وفيما يخص الموضوعات التي تُعاود نفسها في العمل الإبداعي تكوّن ما يسمى بالاطّرادية وتقوم بمهمّة تنسيق الحياة الخفية في العمل الإبداعي، وفي هذا يقول ريشار من أن الاطرادية هي: ((المقياس Le critére في تحديد الموضوعات...))(8)، والتي تعطي الصبغة الأساسية للموضوع.

4ـ المعنى: لفهم المعنى لا بد من وصفه وصفاً شاملاً يسمى بالجرد والتنضيد: Inventaire ou Repértoire وهذه الآليات تعمل على تصنيف عناصر المدلول في العمل الأدبي، ومن ثمّ يرتسم في مشهد إدراكي وخيالي فريد؛ والهدف من هذا المنهج هو اكتشاف الفرادة "La singularité" في العمل الأدبي، وتميّزه عن غيره، ومن أجل فهم المعنى أكثر لا بد من وضعه ضمن مقولات Catégories المسمى في العربية (سلسلة الأمثال)، لأن أي شيء يخدم المعنى يسمى مقولة، ولو كان الشاعر يعتمد على العمق في قاعدته فهذا الأخير يسمى مقولة؛ والموضوع بمثابة سلسلة أمثال لغوية، هذه الأخيرة تحوي داخلها أنواع الترسيمات، تؤلّف مع بعضها مجموعة مقولاتية واحدة.

3ـ الحسية: يتشكل الوعي الحسي اتجاه العمل الإبداعي عبر مراحله المعقدة كتشكل صورة الطفل الوليد، ومن ثم ((إذا أردنا أن ندرك هذا الوعي الحسي اتجاه الإبداع كان في وسعنا أن نتمثله عبر صورة الطفل الوليد... ففي المرحلة الجينية لا تعرف الأم شيئاً عن جنينها. إنها شبيهة بالشاعر الذي تختمر العملية الإبداعية في شعوره وإحساسه حتى تعبّر عن نفسها في كلمات مسطورة. ولا أحد هنا يعرف ما الذي يجري في داخله من تفاعلات. فكل تفاعل منها يعبر عن مرحلة من مراحل الخلق حتى يكتمل الخلق بصورته النهائية))(9). وكلما توغل المبدع في بحثه انبثقت أمام عينيه مجموعة من المتناقضات الحسية مما يفضي في النهاية إلى مفهوم التوازن.

4ـ الخيال: لما كانت كل مقولة تقوم بوظيفتها من خلال علاقتها بالأخرى، كان التناول النقدي لمفهوم الخيال يقوم مرتكزاً بالدرجة الأولى على الخيال العلائقي Imagination Relationnelle، ومن هنا تبرز نقاط التقاطع. وعليه تنتج لنا هاهنا علاقة في الخيال. ثم علاقة الخيال بالحسية. ثم الحسية بالمعنى. ثم المعنى بالموضوع.

5ـ العلاقة: لا بد هنا من الإشارة إلى ظهورات الموضوع لأنّ كلّ ظهور يُعد لباساً للمعنى، فظهورات المعنى تُصدي في اتجاه بعضها؛ وهذه الأصداء التي تثيرها المعاني تلتقي مع بعضها في علاقة عديدة، ومن أنواع العلاقات التي تربط بين المعاني، العلاقات الجدلية والمنطبقة والخيطية والشبكية. وذلك ما يمكن وصفه التمفصل وبذور الالتقاء.

6ـ التجانس: تأتي الموضوعات لتعزّز مفهوم التجانس في العمل الإبداعي، فالموضوعات تتشكل من أفكار فرعية تلتقي فيما بينها لتشكل الموضوع الأساس، وفي إطار الموضوعات الأساسية تتحرك الأنواع الفرعية، بما يشكل موضوعاً قوياً يجمع ما لا حصر له من الخصوصيات.

7ـ الدّال والمدلول: علاقة الدال بالمدلول يطرحها البعض على مستوى الصورة والمعنى والبعض الآخر على مستوى الحرف والفكر، وآخرون على مستوى دلالي وهو مستوى العلاقة بين الدال والمدلول ومنهم من يطرحها على مستوى لغوي، يميز فيه بين التركيب لسلسلة تأليفية، والتراكيب كسلسلة أمثالية وأصحاب مدرسة القواعد التأويلية والتحويلية يطرحون القضية على مستوى البنية السطحية والبنية العميقة، فالقراءة الموضوعية تنطلق أساساً من قاعدة المدلول، ولكنها لا تغفل الدال إذا كاني يخدم نوعية التحليل الموضوعي ومطامحه؛ وهنا يتجلى فهم الدّال بين الشكلانيين والموضوعاتيين، حيث أن الموضوعاتيين يرون أن الدال محدود باتجاه العالم الأدبي الموصوف(10).

8ـ شكل المضمون: مصطلح شكل المضمون ابتدعه العالم اللغوي الدانماركي لوي هيبلمسلف 1899ـ 1965، حيث كان مصطلح الشكل عند دوسوسير مرادفاً لمصطلح البنية Structure ومقابلاً لمصطلح المادة: Substance فمثلاً في اللغة العربية يختص جمع المذكر السالم المخاطب بالضمير "أنتم"، وجمع المؤنث المخاطب "أنتن" ويختص المثنى مذكراً ومؤنثاً بالضمير "أنتما". نجد الفرنسية تلتقي بضمير واحد يغطي كل هذه الضمائر وهو: Vous(11)؛ فبحوث لوي هيبلمسلف تنطلق من كون أنه لا يوجد تطابق تبادل بين مستوى التعبير ومستوى المضمون، الأمر الذي جعله يبحث عن الكيفية التي بواسطتها يتم بناء شكل المضمون.

9ـ البنية: إن القراءة الموضوعاتية تجعل المقاربة تتساءل عن البنى الخاصة التي تمثل الحضور الإبداعي إزاء الأشياء؛ فالبحث الموضوعاتي هو بحث عن البنية المميزة للعمل الإبداعي؛ وهي الرؤيا التي توحد مضمارية المشهد الأدبي، وبذلك تبحث القراءة الموضوعاتية من أجل الوصول إلى البنية عبر نقاط اللاتجانس من أجل اكتشاف التجانس.

10ـ العمق: ويقصد به أن المعاني الحقيقية هي المعاني التي لا تقال في المعاني الظاهرة أو كما عبر عنها ملارميه أن الكلام الحقيقي هو ما لا يقال في الكلام(12)، ومن ثم ندرك أنه كلما زاد النص الإبداعي غموضاً كلما زاد الناقد توغلاً في القراءة حتى يثبت ويقبض على أمشاج النص.

11ـ المشروع: فالمشروع لا يوجد خارج العمل الأدبي، إنه معاصر له بدقة متناهية، إنه يولد ويكتمل في الكتابة، في الاحتكاك بالتجربة واللغة. وتتضح الأنا ـ في نظر ريشار ـ في المؤلف لا المؤلف(13).

12ـ المحالة: إن حقيقة كل شاعر مسجلة في قصائده أكثر مما هي مسجلة في حديثه عن شعره. وهنا يضعنا ريشار أمام مفهوم "النصية" أو مفهوم "المحالة" الذي يشع في اتجاه كل المفاهيم الأخرى في النقد الموضوعي(14)، فالناقد ينطلق من النص الإبداعي ويعود إليه، إنه يحل فيه ويعيد بناءه حتى يستقر على النحو الذي يرضيه.

بين الموضوعاتية والموضوعاتية البنيوية:

تبدأ الموضوعاتية البنيوية من الفصل بين المعجمي والأدبي، بحيث تعمد القراءة الموضوعاتية البنيوية إلى مقاربة العمل الإبداعي بعملية العد الجرد الشامل لكل المعجم الإفرادي للعمل الإبداعي، اعتماداً على العناصر المتواترة والقليلة التواتر، وحساب التواتر اللفظي يفضي إلى الموضوع الرئيس. هذا الأخير هو الذي تتفوق مفردات عائلته اللغوية من الناحية العددية على مفردات العائلات اللغوية الأخرى.

أما القراءة الموضوعاتية فمقاربة العمل الإبداعي عندها يكون بشكل حر، بينما الموضوعية البنيوية لا نستطيع الدخول إليها إلا من مدخل إجباري، وتالياً منطلق المقاربة البنيوية الموضوع الرئيسي المحدد بالعائلة اللغوية الأكثر تواتراً، لكنها في المقاربة الموضوعاتية حرة لأنها غير محددة، وهذه الحرية هي التي تشكل عنصر الإبداع الساحر والذي تهمله الموضوعاتية البنيوية بتركيزها على الجانب الألسني في العمل الإبداعي..

وهذا ما يجعل شبكة العلاقات عند الموضوعاتية البنيوية مستقرة وثابتة ونهائية، بينما عند الموضوعاتية متغيرة بتغير الأدوات الإجرائية التي يستعملها الناقد والرؤية التي يلج منها في مقاربته للعمل الإبداعي، وهذا ما يجعل الموضوعاتية البنيوية تقع في الانتقائية في المواضيع، فبدل من أن تفرض الموضوعات نفسها على الناقد نجده يفرضها هو، وهذا يؤدي أيضاً إلى اختلاف بنية العمل الإبداعي المدروس بدلاً من اكتشافها.

تقوم الموضوعاتية على مبدأ تصنيف عناصر العمل الأدبي من أجل ربطها ببعضها، بينما تقوم الموضوعاتية البنيوية على أساس التصنيف من أجل توليدها من بعضها، فالتصنيف في الموضوعية تصنيف الربط، بينما هو في الموضوعية البنيوية تصنيف التوليد والتوليد أقوى أنواع الربط.

ترتكز الموضوعاتية البنيوية على تتبع الفعل حضور المحرك "Le verbe moteur" الذي يشكل أساس الديناميكية التي تحرك علاقة المبدع بموضوع إبداعه، بينما نجد أن الموضوعاتية لا تهتم بذلك في مقاربتها.

بين الموضوعاتية والتحليل النفسي:

يعمل النقد الموضوعاتي من أجل الكشف عن معنى الرغبة الدفينة عن اختيار المبدع لموضوع دون موضوع آخر ليجعل منه مادة لإبداعه، والكشف عن الرغبة هو من صميم التحليل النفسي، كما يستوجب دراية عميقة بالعلاقة القوية بين التحليل النفسي وعلم الدلالة؛ نلحظ أن التقارب الكبير بين النقد الموضوعاتي والتحليل النفسي وذلك من خلال استعمال المقاربة الموضوعاتية قاموساً نفسياً من مثل: وساوس Obsession وهذيان: Delire، حلم: Rêve، رغبة: Desir، طوابق الوعي: Etage de la concience والمعنى الظاهري والمعنى الخفي: "Le sens manifeste et les sens latent"؛ ولذلك نجد أن النقد الموضوعي لا يعمل على مستوى الوعي، ولا على مستوى اللاوعي وإنما على مستوى ما قبل الوعي.

يوجد مستوى ما قبل الوعي "Le préconscient" بين نظام اللاوعي، وهو ينفصل عن الأول بالرقابة التي تغلق طريق ما قبل الوعي والوعي في وجه المضامين اللاواعية، وينفصل عن الثاني في أنه يتحكم بطرق الوصول إليه، ويخضع فرويد طريق العبور مما قبل الوعي إلى الوعي لرقابة ثانية، وأن الرقابة الثانية لا تعمل على اصطفاء الأشكال التي تعبر عن طريقها، ولكنها تساهم في تغير هذه الأشكال، فوظيفتها تكمن في أنها تحول دون وصول الهموم المقلقة إلى الوعي؛ ويتميز نظام ما قبل الوعي عن نظام اللاوعي في أمرين: الأول هو شكل الطاقة، حيث هو مقيد في نظام ما قبل الوعي وحر في نظام اللاوعي، والثاني وهو أن العملية التي تجري في نظام ما قبل الوعي هي العملية الثانوية بينما هي العملية الأولية في نظام اللاوعي؛ ولكن هذا التمييز ليس صارماً مما يدفع فرويد إلى تمييز آخر يقوم على أساس أن التصورات ما قبل الوعي ترتبط باللغة بصور الكلمات.

تناول النقد الموضوعاتي قضية ما قبل الوعي على مستوى العلاقة بين الموضوع "Le théme" والهوام "Le fantasme" يكون فيه الموضوع سيناريو خيالي فيه المتخيل حاضراً، وتصور صورة مشوهة لتحقيق رغبة لا واعية، ومن ثم يتداخل المنهج الموضوعاتي مع التحليل النفسي في أن المقاربة في كليهما تعمل من أجل إحضار المعنى إلى النص، أو ما يمكن تسميته بتضخيم المعنى، فكلتا القراءتين مضخمة للمعنى، محاولة الوقوف على أغوار النص ومعانيه العميقة.

استطاعت القراءة الموضوعاتية من خلال ما بسطته من مفاهيم وأسس أن تؤسس لمنهج نقدي تحسس الجوانب ذات الطابع الموضوعاتي في النصوص الإبداعية، وحاول أن يقف على جوانبها الأصيلة في عملية التكوين الإبداعي، سواء أكان ذلك من خلال تتبع المضامين الرئيسة للعمل الإبداعي أم الجوانب البنائية ذات الطابع النسقي، مستعيناً بذلك بجملة من الأدوات الإجرائية والمقولات الكبرى التي أسست للطرح الذي تبنته القراءة الموضوعاتية كقراءة أثبتت نفسها في الحقل النقدي العالمي. [/ALIGN]