تاريخ التسجيل :
Jun 2005
رقم العضوية : 3880
الاقامة : جمهورية مصر العربية
المشاركات : 100
هواياتى : القراءة الكتابة - الموسقى
MMS :
الحالة
غير متصل
معدل تقييم المستوى : 22
Array
محاولة حوار مع لهيب الشوق
· كان الأخ النبيل " سلطوية قلم " قد دعانى لزيارة صالونه الأدبى الفلسفى من مدة ، وأنا فى حضرة الفلاسفة لابد لى أن أقلق ، فكل كلمة تخرج من فمى هى حمالة أوجه ، وكل فعل ما هو إلا تأويل لفعل آخر .. ولكنى مع ذلك أحب الفلاسفة ، وها أنا دخلت لأشارك فى محاورة الأخ الكريم " لهيب الشوق " ، ولكن وليسمح لى بطريقتى ، التى أطمح أن تكون قد تشابكت حبا وامتنانا لطرحه كل هذه الأسئلة على الأدباء ، ووضعهم أمام تحدى سؤاله الذى عنون به موضوعه ..
· أنا أستعيد التراث ، ولا أعيده ، بمعنى البحث الدءوب والجاد عما فى تراثى من إضافات لعصرى ، وعما يمكن أن يحمل من رؤى تقدمية مستقبلية .. نعم إن التراث الشعبى على وجه الخصوص يمثل لى رصيدا ثريا ، فأنا أؤمن بالوجدان الشعبى الجماعى ، وأجد أنه فى كثير من الأحيان يكون فوق التنظير والاحتواء .. إنه هو الذى " يحتوى " وهو الذى منحنى طريقى الخاصة حينما أريد أن أكتب ، وقد أكون نجحت أو فشلت ، ولكن هكذا أتعامل مع التراث ، فهذا السحر الخاص الذى يجعل حكاية ما تعيش فى الوجدان الشعبى ردحا طويلا ، وتؤثر فيه بالسلب أو بالإيجاب ، وكذا المثل والموال والأرجوزة والأغنية ، هذا السحر هو مطلبى ، هو مصباح علاء الدين الذى سيحقق لى كل ما أريد التعبير عنه ، ومن خلاله ..
إن " المداح الشعبى " الذى يدور على البيوت بالربابة أو الدف هو أنا ، أنا القاص المعاصر ، بحثى أنا ساقنى إلى محاولة اكتساب روح " الحكاء الشعبى " لما فى طريقته من شمولية ، ومن قوة تأثير على متلقيه .
· من أين يستطيع الكاتب الصادق أن " يستوحى " ؟ أعتقد أنه يستوحى من تجاربه ، ومن ذكرياته عن هذه التجارب ، وذلك حتى قبل أن يمتلك ثقافته من الكتب .. على أن هناك أمورا هى السبب فى سيطرة عالم البحر فى كتاباتى ، أولها أنى تلقيت هذه السيطرة فى بداية نشأتى وتكوينى ، فأنا مولود بقرية تحيطها البحيرات الشمالية بمصر ، حيث فتحت عينى فرأيت الماء والمراكب والشباك والصيادين ، ولأن بيتى كان هو أيضا بيت صيادين ، وظلت هذه السيطرة راسخة فى نفسى ، ملحة على ذاكرتى ، وثانى هذه الأمور هو أن هذه السيطرة قد نمت وازدادت ثباتا بالثقافة الشعبية ، من حكايات جدتى ، وأجدادى ، وزوجات أعمامى ، ونساء أقارب كبيرات السن ، ورجال قريتى ، مع الاشتراك – ولو عنوة – فى طقوسهم الخاصة بالعرس والميلاد والزواج والموت والبيع والشراء ، والخلافات والطموحات ، والنكسات ، صار هذا كله حقائق يومية عندى ، ولعل هذا ما دفعنى بعد أن اشتد عودى وملكت القدرة على الكتابة إلى أن ألجأ إلى تقديم صورى وذكرياتى إلى الوجود ، ربما لأقل لك : هاأنذا ، وها هم أولئك الذين أعبر عنهم موجودون أحياء مثلما فى الحياة من عنفوان وطرافة وقوة وسيطرة .. على أن هذا لا يعنى اقتصار إنتاجى القصصى على اللون المستوحى من البحر والصيادين ، فقد كتبت كثيرا ، وبنفس القدرة والإلحاح فى كل اتجاه خضته فى الحياة ، كتبت فى القضايا القومية والقضايا الفكرية – وحتى العلمية – ولكن معظم أحداثى تقع فى قريتى ، وأنا أحب ذلك ، كما أريد أن أقول بحسم : إن انشدادى إلى بيئة البحر والصيادين لا يعنى أننى أرى كل ما فيها مثاليا وورديا ، وأن مادتها الخام تمثل دوما منبع الصفاء والبراءة .. بعض ما أكتبه ربما يكون مثل السكين الحاد الذى يقطع قطعا من جسد مريض .. يبقى شىء مهم جدا ، ألا وهو موقف الكاتب فيما يكتب .. هذا الموقف هو الذى نرى من خلاله إذا كان يحصر نفسه فوق رقعته المحدودة أو ينظر من خلال رقعته هذه إلى شمول العالم المتعدد الجدليات – وليس الإحباطات – عالم الكاتب ليس مطية لإحباطاته ، وإنما هو التآلف والقدرة المتبادلة بين الفهم والانتماء بين العطاء وتبنى القضايا ، كل كاتب فى هذا العالم مع ذلك له " رقعته " التى ينطلق منها إلى رحاب أوسع .
· أنتهز هذه الفرصة ، فأقول إن بعض النقاد والمبدعين ينكرون فكرة الالتزام ، وموقفى هو ليس الالتزام بفكرة ، وإنما هو منهج يمتلكه الكاتب ليرى من خلاله كيفية التعامل – تعامله الخاص – مع الفن والحياة ، والذين ينكرون ذلك إنما ينكرون شيئا أصيلا فى الإبداع .. إننى ألتزم دائما مع الإنسان ، وبه ضد أعدائه فى كل مكان .
· أتمثل الموال فى إيقاعه ، وأحاول أن أستلهم طرقته التى تعتمد على تحديد المشكلة – القضية – المآساة – الحكاية – التى سوف يقص الراوى عنها بشكل مفصل فيما بعد – أى أننى من الوهلة الأولى وفى سطرين أضعك أمام الموقف الذى سأكتب عنه ، ثم يأتى بعد ذلك – كما فى الموال – وطريقة الراوى فى طرح تأثير ذلك على الشخصيات والناس الذين هم داخل المشكلة – القضية – المآساة ، ثم أعود إلى إعادة كتابة الموقف الذى بدأت به لأنهى بذلك قصتى ، ولكن ليس هذا التكنيك علامة مسجلة أكررها فى كل قصة ، ولكنى أردت أن أبرر لك واقعية استخدامى الواقعى ممتزجا بتيار الوعى .. أليس هذا هو الحياة نفسها ؟!
كذلك فإننى أزعم أن تيار الوعى عندى يظل محتفظا بفارق المشابهة بينه وبين تيار الوعى عند كتاب غربيين مثل " جويس " أو " بروست " أو فرجينيا وولف "
· على المستوى الفنى علينا أن نغامر تلك المغامرة نحو الواقع الأدبى والاجتماعى لا التى تبتعد عنهما .. علينا أن نستنبط أشكالنا الفنية من واقعنا لا أن نخترعها .. علينا أن نبنى جسرا من حديد وصلب بيننا وبين جماهيرنا ، لا بالتعالى عليهم ، وإنما نكون موجودين فيهم ، نفهم منهم ونعى ما هو الشىء الكامن داخل نفوسهم ، ما طموحاتهم ، وما هى آلامهم وآمالهم .. إن بعضنا يتعالى ، ويتعامل برؤية ذهنية يخترعها ذهنه المثقف ، فتأتى رؤيته نظرية بحتة ، " وهات يا كتابة " فيحدث الانفصال الحتمى بين ما يبدعون وبين الواقع من ناحية ، وبين المتلقين من ناحية أخرى .. علينا من الناحية الفكرية أن نلتزم بما هو مع الإنسان دائما ، وضد أعدائه فى أى عصر وأى مكان .
· أنا فى حالة كتابة دائمة – حتى لو لم أمسك بالقلم فهذا آخر شىء – وفى حالة قراءة دائمة – أيضا – ملازمة ، لا أعرف سر هذا التعانق والتلازم ، قبل التحقق بقليل أخرج للناس ، وأثرثر كثيرا ، وألقى الأسئلة ، وأرفض الإجابات ، وأجادل بعنف ، وأشاكس طوب الأرض ، يبدو أننى أحتاج للمعرفة قبل الشروع فى عملية الكتابة ، فى كثير من الأحوال لا تكون هناك علاقة بين ما أقرأ وبين الثرثرة ، والمشاكسة ، وبين ما تحقق ،إلا أن حالة " البحث " و " الدهشة " و" التأمل " و " الانغلاق " و " التفتح " تلازمنى فترة من الزمن ، ثم تأتى الكتابة بعد أن تكون قد أحاطت بى ولا فكاك منها ، وهذا سر خاص أحاول دائما أن أفض غموضه ،إلا أننى دائما ما أنسى أن أصنع له إجابة ما ، تجعله يخرج من قمقم السر إلى العلانية .. شىء آخر – مهم جدا – قبل الشروع فى عملية الكتابة لابد لى أن أحيط بكل ما أريد أن أسطره .. لا أبدأ الكتابة باقتحام المجهول بأول جملة تكتب ، هذا مؤجل لما بعد، أعرف أنه سوف يأتى إذا كنت صادق العزم ، ممتلئا بحزن جميل ، وتوفز أصيل طال توتر القوس ، وعليه أن ينفك من عقدته وينطلق، بعد معرفة موضع قدمى ، وموضع رأسى ، أحاول مجاهدة كل هذا ، ويبقى مع هذا كله سر العمل الكتابى الذى تقوم قيامته على الورق – أثناء الفعل نفسه – ويلزم لى ورق وقلم ، وفكرة طال بها معاركتى ، وتظل على مطاردتى إلى أن أصرخ ، فقد جاء وقتى وأمسكت بها أخيرا ، وعلى أن أبدأ ..
· هل أخرج على هذه القاعدة ، ليكون هناك استثناء ؟ قد يحدث – رغم هذا – فجأة بلا مجاهدة فقد كتبت قصصا لمجرد أننى كنت أريد أن أخرج من التوتر والغضب ، وكنت هادئا طيبا ، فى داخل حجرة التدريس وبين طلبتى ، أمسكت بالقلم لألعب به ، وتحول اللعب إلى انتباه ، والانتباه إلى فعل ، والفعل إلى متعة غريبة وعذبة ، لابد أن كل كتاب العالم قد خبروها ، فكتبت فى ذات اللحظة ، إلا أن هذا لا يحدث كثيرا ..
· كل غريب مدهش فى حياة الناس ، قد أراه رؤية العين ، أو أسمعه من أحد الناس – بصوت صاخب ، وهادر مع التشخيص – كل هذا مع حبى للموسيقى ، تحفزنى – أيضا – بشكلها المنساب الهادىء ثم فجأة تصدح هادرة ، ثم هناك بعيدا يتشكل اللحن الواحد بمليون وجه جديد ، ويسيطر ، أليس فعل الكتابة من خلال الكلمات يكون هكذا – ينبغى أن يكون – باختصار حركة الناس فى بلدى فى الحياة والموت ، الحب والكره ، المسالمة والعراك ، المثير من المواويل ، والأغنيات والأمثال والحكايات ، وتصاريف الحياة .. المثير عندى أن أرى وأعاين وأشارك فى ضجيج الحياة فى جوهرها وتفاهتها – أيضا – الأصيل فيها ، والعرض ، كلما عشت الفعل فى حركته كتبت .
· لكل عمل صعوبته كما أن القانون الثابت لا وجود له ، فيمكن أن تقول : لكل عمل سهولته أيضا ، عند هذه العبارة الأخيرة تكمن الصعوبة الحقيقية لدى ، فأنا حكاء ، والقصة ليست حكاية بالمعنى القديم للكلمة العظيمة " حكاية " إذن كيف تحكى ، وكيف – فى ذات الوقت – أكون معاصرا ؟! فى كل مرة يترصدنى هذا السؤال ، وأرتجف .. وتأتى الحلول فى كل مغامرة أغامرها ، ولكن الأكثر صعوبة هو السؤال اللاحق : أى شىء أكتبه ؟ الحياة يعرفها الناس ، فكيف أعلو إلى ذرى الفن الساحر ؟ كيف ؟ وياله من سؤال يشكل صعوبة ما بعدها صعوبة ..
· لم أفكر فى هذا من قبل إلا أنه – وياله من اكتشاف – يحدث مع كل مغامرة كتابية ، هناك شىء ما تريد أن يتكون .. اللغة عامل مهم ، لأنها أول الخامات وأعظمها ، وآخرها فى أدائى ، وإحدى المهام الأساسية للكاتب أن يخلق لغته ، وأن يعيد تكوينها ، واكتشافها ، طالما ملكتها – اللغة – دانت لى الأسرار الأخرى للكتابة .. هل هذا كلام عادى ؟ نعم يبدو لى ذلك ، لأنه ليس كل شىء ، فعملية الكتابة أشق وأعقد ، فأحيانا أمتلك اللغة ، ولا أنتج شيئا ، وأنظر إلى الأوراق التى كتبت على صفحاتها ، وأنفخ غيظا ، وأعود ، أحاول من جديد ، ويتضح لى أن الكتابة عملية كلية ، هى " كل " لا يرضى التجزئة ، فليست اللغة وحدها ، ولا الأسلوب وحده ، ولا الشكل وحده ، ولا طرافة الفكرة وحدها تصنع الكتابة ، إنما هو توحدى مع رؤية بعينها ، مع التجربة فى جلسة واحدة ، أو جلستين ، أو أكثر ، لا يهم طالما شعرت أننى لا أكذب ، ولا أزيف ، إذا كنت صادقا مع نفسى ، ومع الآخرين الذين نزعم بأننا نكتب لهم ، أعرف ساعتها أننى أسير فى الطريق الصحيح .
· ربما ذكرى ما ، تنبع فجأة من الذاكرة ، يقلقلها ويقتلعها من ثباتها حدث وقع أمامى ، أو تداع فى نفسى ، تومض الفكرة ، وتظل تومض ، وهى تومض تتشكل ، وأنتبه ، ثم تأتى مرحلة المراجعة ، التى تتراوح بين الجزر والشعور بتفاهة هذا النحو من التفكير ، وبين التثبت ثم " ها " ينفتح العالم .. ربما تأتى أيام التحاريق ، والجفاف ، يشتد فيها الألم ، والخوف من رعب الكف عن الإبداع ، ويفتش المرء عن الأفكار ، فلا يجدها ، جربت أن أجبر نفسى على الكتابة ، أقول الحقيقة أننى قد أنجح بعد مجادلة ومجالدة ، وقد أنجح . . ربما – وهو المهم – أن يعيش المرء فى حالة كتابة وتأمل دائمين ، لا يكون الكاتب شيئا آخر سوى أنه كاتب يريد – ويحب – أن يكتب .. أعتقد أن الأفكار تعشق من كاتبها أن يكون هكذا .
· الصدفة فى الحياة تختلف عن الكتابة ، فنحن نضحك ونسخر من تلك الأعمال الأدبية أو الفنية التى تعتمد فى بناء صراعها على الصدفة ، وهذا شىء آخر – أعرف – أما أثناء الفعل الكتابى فشىء آخر .. قل إنه حافز مدخر ، متوفز ، يأتى فى أوانه ، إنى أكاد ألمسه ، ويهرب إذا استدعيته بالأمر المباشر ، ويجىء إذا كان بينى وبينه مسافة غير مقطوعة ، وغير موصولة – هى حالة وسط – ولكنى أكون على يقين أنه حاضر طالما أنا قاعد له ، منغمس فى التجربة ، لا يشغلنى شىء فى العالم – إلا قصتى التى أكتبها الآن – هكذا أبنى ، وأظل أبنى ، بهذا الكامن المتحفز ، لإعطائى كل ما هو جميل ، وراق ، وطيب .. لا أخفى عليك أن هذا " الشىء " يعرفه كل كاتب ، يسعى جاهدا أن يكون " فيه " فهو الذى يعطى العمل الفنى جاذبيته ، وخصوصيته وجماله .
· إن الفكرة التى كانت هى سبب التوحد والتفرد وإمساك القلم ، غالبا ما تتحقق على الورق .. فها هى الأوراق ، فما ذلك الذى اختلف ؟ لا شىء ، فها هى الأوراق قد حملت كا ما كنت أفكر فيه ، وأهم بفعله ، وفعلته ، ولكن يحدث أن أكتشف فجأة أن جملة ما تحتاج لإعادة صياغة ، أو قولا كتب بشكل فج ، وعلى أن أجعله قولا ساحرا مكثفا ، أو فعلا ما لابد أن يسبق فعلا آخر .. كل ذلك يحدث فى الكتابة التالية ، حين " أترجم " كلماتى التى كتبت بخط سريع ، حروفه تأخذ بخناق بعضها البعض ، فلا يعرف أحد قراءته إلا أنا ، فأكتب بخط واضح مبين ، أجمله ، وأزينه ، أما التجربة التى أشعر أنها تحتاج كلها إلى إعادة صياغة كاملة ، فهى تشعرنى بالغيظ الكامل ، وعدم الرضا عن نفسى ، فأبعد أوراقها عن عينى ، وأنتظر تجربة أخرى ، أكون فيها فى كامل لياقتى .
محسن يونس
قاص وروائى وكاتب للصغار