- صوفيا -
--------- قصة قصيرة
ما حدث " لصوفيا " جعلني أفكر كثيراً في حياتي ، ليس هذا فقط بل إنني قررت تغيير الكثير مما اعتدته رغم إدراكي لصعوبة الأمر 0
كانت " صوفيا " محبوبة من الجميع فهي لم تبخل على أحد يوماً ، " صوفيا " التي اعتدنا أن نراها دائماً في أحسن حال وأبهى صورة 0 كنا جميعاً نشعر أن " صوفيا " تمثل جزءاً من حياتنا ، وفرداً من أفراد أسرتنا ، نفتقدها ونحنُّ إليها متى ما غبنا عنها ، ولا ننفك نذكرها وتذكرنا بها الكثير مما نراه في طريقنا إن كنا مسافرين مثلاً 0
أذكر أنني منذ رأيت " صوفيا " لأول مرة ووعيتها كان ذلك مذ كان عمري خمس سنوات ، واليوم لدي ثلاثون عاماً و " صوفيا " لا زالت تشعرني بالحب ، وتمنحني الدفء ، وتجسد رمز الوفاء والعطاء في حياتي 0
لطالما جلست إليها وحيداً أكسّر العيدان اليابسة ، وأخطُّ في الأرض وأنا أتحدث إليها بكل ما في قلبي ، ورغم أنها لم ترد على حديثي يوماً ما إلا أنني كنت أشعر دائماً أنها تواسيني وتمنحني الصبر والحكمة والشموخ 0
وعندما مرضت " صوفيا " فرضت على الجميع الحزن ، وأوجبت عليهم - مما لها في قلوبهم - التألم لما أصابها 00 لم نفكر أبداً أن نقف مكتوفي الأيدي ونحن نشاهدها تسقط أمام المرض القاسي ، صعب عليّ كثيراً أن يتهاوى شموخها ، وتنهارعزتها بعد كل ما منحتنا ودون مقابل 0
وعندما أحضرنا الطبيب تأمل جسدها البديع ، الضخم ، الشامخ ، ولم يتمالك نفسه من التأثر لما أصابها 00 أوصانا بالكثير ولم نقصر في ذلك ، وأذكر أنني يومها سافرت لأكثر من مائتي كيلو متر لأحضر لها الدواء ، وعندما عدت بدا لي وأنا أراها من بعيد أنها تبتسم لي شاكرة وشموخها الذي أحبه لم يتعاف بعد 0
تدهور وضع صوفيا الصحي رغم ذلك وحُرنا في أمرها !! في ليلة من الليالي المقمرة جئتها وجلست إليها وبقيت أتاملها وهي كعادتها ساكنة وادعة ولكني شعرت بالوحشة لأول مرة في حياتي معها 00 وجدت نفسي أغوص في الذكرى ، فقد تذكرت أن في جسدها البديع نقشت يوماً كلمة ( أحبك ! ) 00 كان ذلك منذ سبع عشرة سنة 00 تحسست المكان فلم ترتجف ، ولم تخجل من لمسي لها !! بل بدا لي أنها اطمأنت بذلك 0 شعرت أنني على وشك البكاء 00 وفيما أنا كذلك أحسست بخطوات خلفي ، ولكن رعبي زال بنفس السرعة التي جاء بها !! داعبت شعر طفلي الصغير ( أسامة ) وأنا استمع إليه يهتف : " أبي هل صحيح أن صوفيا ستموت ؟! " ، لم أكن بحاجة لسؤال أسامة لأتألم أكثر 00 نظرت إليها ووجدت نفسي أهتف : لن تموتي يا صوفيا ، أشعر بذلك في أعماقي 00يارب "
في الليالي التي تلت ذلك تهاوت صوفيا أكثر حتى عبث بنا اليأس ولم يعد لدينا شك في رحيلها 00 كان الأطفال أكثر المتجمعين حولها 00 أحياناً كنتُ أمر وهم جلوس حولها 00 تماماً كمأتم ملكي 00 كانت على ما يبدو تحتضر 00لا أنكر أنني لم استطع الجلوس إليها وهي بتلك الحالة 00 وكان عليّ في اليوم التالي أن أسافر لبعض شأني ، وبعد أسبوعين عدتُ ومن نفس المكان الذي رأيتها منه من بعيد بدا لي أنها لم تعد موجودة ، غير أنني عندما حدقت جيداً كان ثمة شجرة منجا زاهية الخضرة ، مفعمة بالحياة 00
اقتربت أكثر ولمحت على غصنها الكهل طفلاً بدا وكأنما كانت تحتضنه 00 كان أسامة يلوح لي !! تفجر قلبي بالسعادة 00"لقد عادت صوفيا إلى الحياة 00حمداُ لله " 00
علمتني " صوفيا " الصبر مذ كنت صغيراً فقد كنا نحرمها من الماء أياماً طويلة ورغم ذلك لم تمت 00 وعلمتني العطاء حين أثمرت بسخاء دون أن تنتظر المقابل 00 وعلمتني الشموخ عندما فاقت منزلنا طولاً دون أن تبالي بما أسقطت الأيام من أغصانها 0
اعتقدت بعدها أن علاقة الإنسان بأشيائه قد تكون أقوى مما يتصور في الحقيقة ، وتذكرت حينها أنني سمعت من بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له أشيائه الخاصة وكان يكني بعضها ، 00 أريد أن أقول أن حب الإنسان قد لا يقتصر على مثيله ، ولكننا قد نجد يوماً أننا نحب أشياءً أخرى لها ذكريات جميلة في حياتنا حتى وإن كانت لا تنطق ولا تشعر بالحب 00 غير أنني حتى كتابة هذه السطور - ولا زلت - اعتقد أن " صوفيا " تحبنا جميعاً وقد أشعرتني بذلك كثيراً 0