مستكة ، وحبهان ، وقليلٌ من المـُـر .
بقلم : سمير الفيل
مصطفى المر تاجر اللبان فسد عقله ، وقد تقدمت به السنون فبلغ الستين دون أن تتلخلع في فمه سنة واحدة ، ولا يتوجع له ضرس . قالوا أن سبب ذلك وصفة بلدية جعلت قلبه شبابا ، وروحه أكثر فتوة من عشرات الشبان ، والدليل على ذلك أن شعره لم يغزه الشيب أبدا ، ورغم أنه رجل بصباص إلا أنه تقي يعرف ربنا ، وقد حج البيت سبع مرات ، بعدها بنى مسجدا ، ووضع أمامه سبيل ماء من قلل قناوي بغطيان فخار ، ووراء السبيل كـُـتب بالخط الكوفي " هذا من فضل ربي " .
كانت هذه سيرته الحسنة حتى تزوجت البنات ، ورزقهن الله بعرسان مستورين ، أما وحيده أحمد فقد كان شيوعيا حتى قبل دخول الأحزاب مصر ، وله في مقهى سوق السمك قعدة مخصوصة يسحب فيها أنفاس كرسي المعسل ، وإليه يأتي المخبرون فيحصلون على شهريتهم ، ويضربون له تعظيم سلام لأنه رجل حقاني يسدد ما توانت الحكومة عن تسديده ، بالإضافة لنكته القبيحة التي كانت لا تعترف سوى بالنصف الأسفل من الجسد الإنساني.
كان يقول عن أبيه العطار أنه نصاب ، وأن الحجات السبعة لا ضرورة لها فيكفي واحدة ، وبالمال الذي راح في السفر ، وشيل الهدايا من سبح وطواقي وماء زمزم المزهر يمكن أن يبني ملجأ أو يساعد البنات الفقيرات في تجهيز شوارهن.
وكان الأب ممرورا من هذا الإبن الجاحد الذي ترك العطارة ، وكره كل ما يمت لها بصلة من البخور الجاوي ، والحبة السوداء ، وذر العفريت ، والشبة ، والمستكة ، الحبهان ، وغيرها من أصناف لزوم الطعام المسبك ، ونظافة المعدة ، وروقان البال . كان أكثر ما يكرهه حجر جهنم الذي يدخل النساء نارا لايقدرن عليها .
وقد تصادف بعد اضطرابات سرت في المدينة أن ألقي القبض على أحمد في عز الفجر ، ولم يشحططوه كغيره من المقبوض عليهم ، بل عاملوه بالحسنى ، وسفروه لمباحث أمن الدولة بالقاهرة ، فاستجوبوه ، وسلطوا الكشافات في عينيه لساعات طويلة ، وبحثوا في أوراقه فلم يجدوا تقريرا واحدا يدينه ، ولا ورقة يتيمة تكشف انخراطه في تنظيم سري لقلب أي شيء بدءا من المنضدة وانتهاءا بنظام الحكم ، فهو عقله من دماغه ، لدرجة أن المحامي الذي تدخل للإفراج عنه ـ بوصية من أبيه ـ لم يجد صعوبة في التوصل لحقيقة أن القضية " فشنك " .
مصطفى المر لحست شواهي عقله ، وهو الشيخ المسن المتقي ربه ، والسبب يرجع إلى أن قلبه رهيف ، وهي حينما تأتي الحارة بفستان ستان أحمر تثير الفتنة في المكان ، ويسمع خلخالها يرن رنا على قطع البلاط البازلت المربعة من بقايا الصخورالمتحولة ، وقتها يقوم من جلسته ، ويحوش صبيانه عنها ، وغالبا ما يصرفهم للمخزن حتى يستكملوا ما نقص من بضائع ، ويستفرد بها ، وهي تحرك فص اللبان في فمها الدقيق كخاتم سليمان ، ويده تسرح في المنطقة الحرام المكشوفة بين النحر ومنابت النهدين ، فتقول بغنج خفيف : أختش ياحاج .
وهو يختشي فعلا ، ويكف عن حركاته الصبيانية ويمتنع عن مد اليد أو تطويل اللسان حتى تباغته بتقصيعة تقصم وسطه ، وتطلب منه تحبيشة من اللبان الدكر وشمع النحل الملكي ، ليكون الفم أطيب رائحة . فهو الفم الذي يحلم بتقبيله بعد أن انتكس مع نجية أم أولاده ، فلم يعد يحط منطق في أي سرير يجمعهما حتى ولو كان السرير النحاس القديم ذي التيجان الذهبية والدندشة الفضية .
مع شواهي يطلع سابع سما ، وتهوي به سابع أرض ، يعترف لها كل مرة أن المـُـر ليس فقط لفطام الرُضع حين تضعه الأمهات حول دائرة الثدي ليكف العيل عن الرضعة الحلال بعد فصال عامين : المـُـر يا آنسة شواهي أن تعيشي حياتك بدون إحساس .
تلعلع ضحكتها فتتجاوز خمسة شوارع ،وميدان كامل في قلبه تمثال الزعيم الملهم ، وتضربه على كتفه : يجازيك بالخير . آنسة ؟ مائة مرة أقول لك " مدام " .
يمتقع وجهه ، وقد نسى أنها قد دخلت دنيا فعلا ، وذاب في غرامها رجلان ، وهي تمتنع عن قبول ثالث يكسب دهبا ، ويلعب بالنقود لعبا ، تنصحه أن يكتفي بالبص والكلام ، فمما لاشك فيه أن العين بصيرة واليد قصيرة . تقولها فينتفض للحظة غاضبا ، لكنها تهديء انفعاله بلمسة من يدها شديدة النعومة على خاتمه الفضي المرصع بحجر كريم أزرق لزوم رد الحسد ، وتترك الباب مواربا للقبول : أقول لك الرجل لا يعيبه إلا جيبه!
فيضع يده على حافظته ، ومنها يخرج العشرة والعشرين والمائة ، ويلف النقود مع المر والشيح وحق العنبر ، فتشكره ، ثم تتواعد معه أن تأتيه الثلاثاء القادم ، ومعها جواب أخير على عرضه الذي لا تعرفه زوجته نجية ، ولا إبنه الشيوعي الجاحد أحمد عدو الله وخصم الحكومة ، وابن أمه التي ترسل كل مرة في طلبه من بيته المستأجر الذي يسكنه وحده كي تراه ، هو الشاب المقتدر من وظيفته في قلم الحسابات ، يعودها فتدس في جيب بنطلونه لفافة من مال الأب الثري ، وتقبله في جبينه فهي أمه التي تحبه ، وتخشى أن تقبل فمه لأن شاربه المقصوص يشوكها ، كما أنها تخجل منه رغم أنه ابن بطنها بالحلال والرب شاهد ، وسيرى الظالمون حطب جهنم ، وبئس المصير .
رآها أحمد في مجلسه من مقهى سوق السمك ، فلسعته رجولته ، وطقطقت عظامه ، ففز من مجلسه واعترض طريقها ، بكلام لم تستطع أن تجد فيه عيبا : خصيمك النبي . لا تردي يدي فارغة . تعال نمشي قليلا على الكورنيش .
حدجته بنظرة تجمع الوعد بالوعيد : بأدب .
هز رأسه وهناك أمام النيل أقنعها أن الحظ لا يأتي سوى مرة واحدة في العمر ، وأنها حظه الذي انتظره طويلا ، وهو لن يفرط فيها بكنوز الدنيا فقد أعجبه قوامها ، وذكائها ، ولحظها الفتاك .
رمته بنظرة متحدية : لكنني سبق ودخلت دنيا .
رد بعفوية : لا أظن ذلك.
بكل قسوة صوبت السهم نحو نحره وبدقة رشقته : رجلان لم يكمل الواحد في سريري شهرا .
كان عقله قد اشتعل بالرغبة وهو يتأمل ندبة خفيفة أسفل ذقتها الموشوم بزهرة مخضرة دقيقة : ولو . أنا عند وعدي.
سألته وهما يجلسان في الحديقة الواسعة التي يندس فيها مخبرون رأتهم يوسعون له الطريق احتراما وتوقيرا : ماذا تريد بالضبط؟
قال بكل ثقة وهو يسندها حين أوشكت أن تتعثر في صخرة ناتئة : أريد أن أقرأ حظي معك .
حدقت في عينين بنيتين قاتمتين مع إشراقة كشفت عن مغامر جسور : طلبني الحاج مصطفى العطار قبلك .
لم ترتجف في وجهه عضلة واحدة : هذا ليس بغريب . فقط لتعرفي أنه أبي ، وفي الغالب لا نتفق أبدا.
تراجعت خطوتين ، ورفعت كفها لتمنع خطرا داهما ، فتعالت ضحكة مفعمة بالنشوة : أنت مازلت حرة ، ولك الاختيار.
بكل صفاء الأنثى تمنعت ، وسرت في روحها قشعريرة لم تدرك سببها : هل تتزوجني؟
بانت عروقها تشف من وراء بشرة بيضاء رقيقة ، يكاد الدم ينبثق منها وصدرها يتهدج ، داهمها صوته : لا أصطاد سمكا في بحر!
همدت للحظة ، حينها مال بجسده ، وأجلسها على مقعد صخري أمام بائع الترمس الذي كان يعصر ليمونة كاملة على قرطاسين مفتوحين من الطرف الأعلى : أحط ملحا وفلفلا ؟
قالت وهي تمسح عرقا خفيفا : حط.
كان الملح أكثر من أن تبعده قطرات حمضية لحبات مدورة لها رائحة قرية السنانية ، قال أحمد : لا تضع لي غير الليمون ، والشطة .
دغدغت نفسه ضحكة رائقة أطلقتها شواهي ، وفرغ القرطاسان ، ثم جاء المخبرون فلملموا ما بقي من الحبات اللذيذة المملحة .
في الأسبوع التالي خلا قلم الحسابات من أحمد المر ، وكان أن قضى معها أسبوعا كاملا ما بين شاطئي جليم والشاطبي . انبهرت شواهي بالكورنيش الممتد كسوار يحيط بمعصم الأسكندرية ، وعرفت كيف ينحني النادل وهو يمد يده بقائمة الطعام . دخلا دور السينما وحفلات المسرح ، ومن شارع سعد زغلول اشترى لها عشرات الحقائب والصنادل من الجلد الطبيعي ، وكان كلما رافقها لغرفتها الخصوصية بالفندق المطل على البحر ، مدت يدها ليقبلها ، ثم أبعدته برفق معتذرة : لا أفتح الباب إلا بشرع ربنا .
علم الحاج مصطفى بما كان من الولد الجاحد منفلت العيار . صعد الدم إلى يافوخه ، وهو يتحسر على الفرصة الأخيرة التي لاحت له ، وكانت كفيلة أن تنقذه من الشيخوخة المحدقة به ، فقد هربت في آخر لحظة .
تناقل أولاد الحلال سر الاختفاء المفاجيء للإبن ، ولأن البلد لا يبتل في فمها فولة فقد ظلوا يتندرون على الأب المسكين الذي غلبه ابنه بلكمة خطافية مفاجئة .
ولما ضيق الأصحاب عليه الخناق ، ووضعوا في يده ورقة مطوية فيها اسم الفندق ورقم الغرفة لم يجد أمامه مفرا من التصدي للمصيبة ، والسفر في الليل الغطيس للأسكندرية .
أشرعت عينيها نحوه وهي تفتح الباب في عز نومها ،كانت في قميص نوم رقيق مشغول بماء الذهب . جرت وارتدت روبا نبيتيا مغلق الصدر . لم تكن تصدق أن يأتي : من . أنت؟
طار من عقله كل الكلام الذي جهزه ، وسهر الشطر الأخير من الليل كي يرصه ويشذب أطرافه . كان عليه أن يهجم عليها بصفعة ، ويلقنها أصول العفة ، يقول لها مثلا : أنت تقتلين الفضيلة . وجودك في حياتنا حرام .
لكن صدره الذي يعلو ويهبط جعلها تسرع بإحضار مقعد صغير من الخوص أجلسته عليه ، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة ، دمعت عيناها وهي تخرص كل ظنونه : صدقني . أحمد لم يمسني.
تماسك وهو يشرع أصابع الاتهام في وجهها : لكنك لست آنسة ومن السهل أن ... ؟
لم تخفض عينيها قط ، فقد فتحت إحدى ضلفتي النافذة المواجهة للبحر : تعال انظر للموجة التي تلاحق الأخرى . من يمنعها يا حاج؟
مساحة الأزرق البعيد والعميق شغلته ، فيما ذهبت وأغلقت الباب المفتوح ، خلعت له حذائه ، وتركته يتأمل المساحات الواسعة من ذلك الأزرق بعنفوانه المخيف . لأول مرة ترى مظاهر وسامة قديمة ، لمحت الشبه بين الأب وابنه . لم تكن لتسلم نفسها لهذا أو لذاك . بدت متحيرة ، وهي تضع بين يدي العجوز فنجان القهوة التركي .
أرادت أن تشرح له الأمر لكنه بدا في شدة غموضه . هل كانت تهرب من الناس أم من اختياراتها ؟
لم يمكث طويلا ، فقد رشف رشفات متلاحقة من قهوته التي شعر معها بطعم المر العلقم ، هز رأسه ممتنا ، وربت على كتفيها ، وهي تستسمحه أن يجلس ولو لنصف ساعة كي تعد له طعام الإفطار. تحسست شعرات دقيقة باللون الأبيض في فوديه : لا تنزعج . أحمد لا يقوم قبل العاشرة . وهو في حجرة بعيدة عني ولا يأتي إلا بموعد!
أحست بسخونة الدموع المنسابة على ساعديها الممتدين لعنقه الذي راح يرتجف مع جسده إرتجافة خفيفة ، فاهتز قلبها حزنا : صدقني . لم تكن أنت الشخص المناسب .
صمتت قليلا ، وفتحت الضلفة الأخرى من النافذة فتقوست الستائر الفستقية لداخل الغرفة : ولا أحمد أيضا يصلح لي.
لم يكن يستطيع أن يرد على حديثها ، ربما هي الحسرة التي لا يحتملهما قلب إنسان في هذا العمر . لقد انصرف وحيدا في غبش الصباح ، وقبل أن تصحو الطيور من أوكارها قادمة من الشمال البعيد .
في العاشرة تماما ، دقت أصابع قوية جسورة باب حجرتها . لم تكن شواهي في الحجرة ، بحث عن أي ورقة اعتذار فلم يصادفه سوى فراغ قاتل . تعجب أنه لم يغضبها ، ولم يحاول ولو لمرة واحدة أن يقتحم بابا ليس من حقه . بسط ذراعيه على العارضة الخشبية لتلك النافذة المفتوحة على اتساعها ، وقد أرعبه أن يكتشف دوامات هائلة تسكن قلب الأزرق الموغل في فتنته وقسوته المهلكة .
دمياط في 7/ 1/ 2006.