للجرائم المرتكبة داخل الاسرة دلالات خطيرة وتأثيرات عنيفة وانعكاساتها على المجتمع تبدو اكثر حدة من الجرائم الاخرى التي تحدث بين افراد لاينتمون الى اسرة واحدة.
الجريمة داخل الاسرة تبدو تهتكاً لأصغر وحدة داخل التركيبة الاجتماعية وتنم عن خلل في اكثر مؤسسات المجتمع تماسكاً او ما ينبغي ان تكون اكثر مؤسسات المجتمع تماسكاً ولذلك فان هذا الخلل داخل الخلية او المؤسسة الصغرى يقود الى اختلالات اشد واعنف داخل البناء الاجتماعي بأكمله.
وتبدو الجريمة داخل الاسرة كذلك متناقضة مع قوانين الرحمة والتسامح والحب التي تربط بين اواصر وافراد الاسرة الواحدة والتي من شأنها ان تمنع حدوث الجريمة داخل الاسرة ومن هنا تشكل الجريمة داخل الأسرة انتهاكاً لما هو متوقع واختراقاً لما يعتقد انه يشكل حصانة ضد الجريمة.
ان اقصى ما يتطلع اليه المجتمع كنموذج للتماسك والتعاون والتفاهم هو ان يصبح مثل الاسرة الواحدة ولذلك فان الجريمة داخل الاسرة تصبح تحطيماً لهذا المثال وكسراً للنموذج المفترض الاقتداء به.
واذا كانت علاقات الحب والتفاهم والتسامح تبنى على المنافع المشتركة فان المنافع المشتركة بين افراد الاسرة الواحدة والمصالح التي تجعل من كل نفع يناله احد افراد الأسرة نفعاً للاخر فيها, لم تمنع الجريمة من الوقوع وهذا من شأنه يهز القناعات الراسخة بأن المصالح والمنافع المشتركة يمكن لها ان تحد من انتشار الجريمة.
ومن بين الجرائم التي تقع داخل الأسرة تبدو جريمة قتل الاب او الام او الاعتداء عليهما او سوء معاملتهما اكثر الجرائم بشاعة وتستند هذه البشاعة الى عدد من العوامل من اهمها:
-انها تتناقض تماماً مع ما حرصت الشرائع السماوية والاعراف الاجتماعية على تكريسه من اعلاء لمكانة الاب او الام وواجب طاعتهما والبر بهما.
-انها تعتبر من باب الغدر وعدم الوفاء الذي ينبغي ان ينهض به الابن تجاه الام او الاب نظير ما قدماه لابنهما من رعاية وعناية وتربية منذ ولادته ونشأته حتى اصبح في سن يتوجب عليه فيه ان يرد الدين لهما.
-في الوقت الذي ينمو فيه الابن ويشتد عوده ويصبح قوياً قادراً يضعف فيه الابوان ويصبحان عاجزين عن الدفاع عن انفسهما ولذا فان الاعتداء عليهما يصبح اعتداء من القوي علي الضعيف والقادر على العاجز وهو في هذا الشأن شبيه بالاعتداء على الاطفال فالضحية عاجزة في الحالتين عن الدفاع عن نفسها امام معتد يملك القوة التي لا تمتلكها الضحية.
وتتصل بجريمة قتل الابوين قتل من يكون في منزلتهما مثل العم او الخال او والد الزوجة او والدتها وعلى الرغم ان هؤلاء لا ينزلون منزلة الابوين الا ان حكم السن وترابية العلاقة داخل الاسرة الواحدة يجعل من الجريمة تجاههم شبيهة بالجريمة تجاه الابوين.
من بين 47 جريمة داخل الاسرة الواحدة رصدت خلال السنوات السبع الماضية بامكاننا ان نجد 19 جريمة موجهة الى احد الابوين او من هو في مكانتهما كالعم او الخال او والد الزوجة وهذا يعني ان نسبة الجريمة هذه مرتفعة على نحو ملحوظ داخل عدد الجرائم المرتكبة تجاه الاسرة نفسها ومن بين هذه الجرائم الـ19 ثمة 9 اباء لقوا حتفهم على يد ابنائهم وكذلك 5 امهات اما من هم في منزلة الابوين فهناك اثنان من الاعمام قتل على يد ابن الاخ وكذلك خال ووالدة زوجته وعمة وزوجة اب ووالد الزوجة.
اما اذا نظرنا الى الجناة فاننا سنجد الذكور يشكلون الاغلبية فالجرائم التسع عشرة قام بها سبعة عشر ذكراً فيما قامت فتاتان بقتل والديهما.
واذا كانت اغلبية هذه الجرائم صادرة عن سعوديين فان بعض المقيمين كذلك صدرت عنهم هذه الجرائم.
وليست هناك منطقة محددة يمكن لها ان تكون موطنا لمثل هذه الجريمة فقد ظهرت في العديد من مناطق المملكة وتساوت فيها المدن الكبرى والمدن الصغرى, اذ نجد ان هذه الجرائم قد حدثت في كل من (عسير- حفر الباطن- الباحة- القصيم- عرعر- ابها- جازان- مكة المكرمة- بحرة- رنية- الطائف- الخبر- نجران- جدة- المدينة المنورة).
وقد استخدمت في القتل عدة وسائل غير ان اكثرها شيوعاً كان اطلاق النار حيث بلغ عدد الضحايا بهذه الوسيلة عشرة اشخاص اما الوسيلة الاخرى التي تجيء في المرتبة الثانية فهي القتل طعناً بالسكين وتليها وسيلة الحرق كما ان هناك جرائم تمت بواسطة الخنق او الضرب بالة حادة او عمود صلب.
واذا ما نظرنا الى الضحايا فاننا نجد ان الجريمة تكون احياناً موجهة ضد فرد محدد واحياناً تكون موجهة ضد اكثر من فرد فيسقط في الجريمة احد الابوين او من هو في منزلتهما ويسقط معه ضحايا اخرون كانوا موجودين في مكان الحادث ويكونون اما مقصودين بالجريمة او انهما سقطا ضحية الصراع او خروج الجاني عن طور من تلك الجريمة التي وقعدت في ابها في شهر الحج من عام 1420هـ حين اقدم المجرم على طعن امه واختيه واخيه وكذلك العامل الباكستاني وماتوا جميعا وكذلك جريمة بحرة التي وقعت في السادس عشر من شهر الحج كذلك من عام 1422هـ حيث اطلق الجاني النار على امه وعمه وعمته وشقيقتيه وارادهم جميعاً قتلى.
وفي شهر صفر سنة 1423هـ اقدم الجاني في ابها على طعن امه واخويه و اخته والخادم وماتوا جميعاً وفي نجران قام الجانب بقتل والدته وخادمتها باطلاق النار عليهما وذلك في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1423هـ وقد هزت جدة الجريمة البشعة التي اقدم عليها احد المقيمين حين قتل طعناً كلاً من والده وزوجة ابيه وشقيقه وشقيقته وذلك في الثالث عشر من شهر صفر سنة 1424هـ وفي ذهبان نجا اب وثلاثة من الاقارب بعد ان اطلق الابن الجاني النار عليهم في محاولة قتلهم بتاريخ 23/12/1422هـ
واذا كانت اغلب الجرائم تحدث كعمل فردي يقدم فيه احد الابناء او البنات على قتل احد الابوين او من في منزلتهما فان بعض الجرائم تحدث بتواطؤ مابين الابناء ووالدتهم ومثال ذلك الجريمة التي حدثت في الدمام في شهر صفر من عام 1423هـ حيث تمكنت الشرطة من كشف غموض اختفاء رجل خمسيني اذا ا تضح ان اسرته المكونة من الزوجة وخمسة من الابناء هم الذين وراء اختفائه اذ قامت الزوجة باطلاق النار على زوجها اثر خلاف بينهما بينما كان نائماً ثم تعاونت مع ابنائها الخمسة لنقل الجثة خارج المدينة ودفنها وتم الابلاغ عن اختفائه.
مثل هذه الجريمة الجماعية يبدو فيها الابناء عاملاً مساعداً على الجريمة ويكون دورهم هو التواطؤ على الصمت او المساعدة على اخفاء معالم الجريمة. ومن المتوقع ان يكون الجاني الاساسي في مثل هذه الجريمة هو احد الابوين (الام في الحادثة المذكورة) وبذلك يأخذ التواطؤ على الصمت او المساعدة على الاخفاء طابع التعاطف مع الجانبي لما تربطه بالابناء من صلة او لما يمكن ان يكمن وراء الجريمة من عوامل يرى الابناء انها هي التي دفعت الجانبي الى ارتكاب جريمته وبالتالي تستوجب منهم مساعدته في التخلص من الجريمة ومحو اثارها.
واذا استثنينا الحادثة السالفة باعتبارها استثناء فان الجريمة ضد احد الابوين تظل فعلاً فردياً سيحدث في لحظة تهور ناتج عن الوقوع تحت فعل المخدرات او لحظة طيش غير محسوب العواقب والامثلة على ذلك كثيرة, من ذلك ماحدث في رنية حين اقدم شاب عاطل على قتل والده في شهر ربيع الاول سنة 1423هـ اذ ذهب اليه في المزرعة التي كان يعتاد الجلوس فيها وراح يصفه بالبخل ثم اطلق عليه النار من رشاش وارداه قتيلاً.
وقد وصف الشاب بأنه منحرف السلوك ويتعاطى المخدرات. ويبدو ان الاسباب التي تقف وراء الحادث تتركب من مجموعة من العوامل تضاف الى تعاطي المخدرات يمكن اجمالها فيما يلي:
-الوالد صاحب مزرعة وهذا يعني انه ميسور الحال ولكنه في نفس الوقت لم يكن يعطي ابنه شيئاً من المال ولذلك وصفه الابن بالبخل قبل القتل وربما كان الاب يفعل ذلك حرصاً منه على ان يبحث ابنه عن عمل او انه ادرك ان ابنه يصرف النقود في شراء المخدرات لذا توقف عن منحه المال.
-الابن عاطل عن العمل وهنا يمكن لنا ان ندرك انه كان معوزاً لا يملك مالا وكان كذلك يتعاطى المخدرات ولذلك يبدو ان حاجته الى المال ربما ليشتري المخدرات كانت تقف وراء جريمته.
-تعاطي المخدرات يدفع الى مسألتين اساسيتين اولاهما الوقوع تحت تأثيرها على نحويجعله يقدم على جريمته دون وعي كامل بها, والمسألة الاخرى هي ان متعاطي المخدرات يمكنه ان يقدم على اي جريمة يمكن له من خلالها ان يوفر المال الذي يشتري به المخدرات.
-وجود الاب في مكان منعزل في مزرعة خارج المدينة اوهمت الشاب ان بامكانه ان يخفي معالم جريمته دون ان يتمكن احد من اكتشاف انه هو الفاعل وان والده ضحية له.
-واخيراً فإن توفر السلاح (الرشاش) في يد شاب عاطل يتعاطى المخدرات سهّل من قيامه بالجريمة.
وكما في حادث رنية نرى في حادثة جدة البطالة تطل برأسها وذلك حين اقدم شاب عاطل عن العمل في قتل والده في شهر جمادى الاولى سنة 1424هـ وذلك حين طعنه في ظهره عند باب المنزل بعد عودته من صلاة العشاء.
وتبدو الجريمة حسب التوصيف الامني لها, نتيجة لحالة نفسية سيئة كان عليها الشاب وهو يمني الجنسية نتيجة البطالة ونظراً لانتقاء عامل المخدرات فان الشاب قام بتسليم نفسه لرجال الامن معترفاً بجريمته.
هذه الحالة النفسية نجدها كذلك هي حالة الشاب الذي اقدم على قتل خاله في المدينة المنورة في شهر رجب سنة 1424هـ وذلك باطلاق النار عليه ولم تتضح من خلال ما نشر عن الحادثة ملابساتها غير ان ثمة اشارة الى انه كان يعاني من اختلالات نفسية.
ويبدو انتفاء الوازع الديني واضحاً خلف الجرائم التي ترتكب تجاه احد الابوين وربما كشفت الجريمة من حيث المكان الذي تقع فيه عن ازمة نفسية داخل المجرم حول ماهو ديني اذ ارتبطت بعض الجرائم بالمسجد فهي تحدث اما داخله او عند العودة منه او عند قيام الاب للصلاة و اذا كان الشاب اليمني قد تربص بوالده عند عودته من صلاة العشاء فان شاباً اخر لم يتورع عن قتل والده وهو يصلي التهجد وذلك ماحدث في قرية قريبة من بلدة القواره في القصيم في شهر رمضان بل في العشر الاواخر منه فقد اقدم الشاب الذي يبلغ الثلاثينات من العمر على قتل والده التسعيني وهو يؤدي صلاة التهجد وذلك بضربه بعمود خيمة حتى ارداه قتيلاً ولم تكن الجريمة لحظة غضب مفاجئ اذ ذكر اهالي القاتل والقتيل ان خلافا حاداً نشب بين الاب وابنه قبل الجريمة بثلاثة ايام قام خلالها الابن بالتلفظ على والده بالفاظ نابية استغربها الجميع.
ان الجريمة على غموضها تكشف من خلال التوقيت الذي وقعت فيه (ليلة السابع والعشرين من رمضان) وحالة الاب اثناء الاعتداء عليه (يؤدي صلاة التهجد) انها جريمة ضد ماهو ديني ومقدس وناتجة عن حالة فصام كامل يشعر من خلاله المجرم بعداء شديد للحالة التي كان عليها والده (صلاة التهجد) وكذلك الحالة لتي كان عليها المجتمع (صيام رمضان) والابن الذي كوصف بانه (صاحب سوابق) يعاني كذلك من امراض نفسية (ذكر بأنه كان يراجع مصحات نفسية) هذا الابن واقع تحت تأثير الاحساس الحاد بالخطيئة هذا الإحساس هو نتاج لتربية دينية لم تتمكن من نفسه وتناقضت مع كل تصرفاته السيئة ومن هنا فان قتل الاب هو قتل للضمير وللقيم التي كان من المفترض ان تمنعه من الاقدام على فعلته.
ويمكن احالة كثير من عوامل قتل الاب الى هذه العقدة فهي في جوهرها قتل لماهو قيمي ومقدس واعتداء على الضمير نفسه.
والى جانب هذا العامل النفسي نجد بعض العوامل الاجتماعية الناشئة عن اضطراب في العلاقات وتداخل في الصلاحيات وذلك مما يمكن ان تكشف عنه جريمة الفتاة التي اقدمت على قتل والدها باطلاق النار عليه في مكة المكرمة بحجة انه اراد تزويجها بشاب لم تكن ترغب في الزواج منه وكانت الفتاة في الخامسة عشرة من عمرها وقد اقدمت على قتل والدها وهو نائم.
واذا ما تذكرنا الحادثة الاولى التي اقدمت الزوجة بمساعدة الابناء على قتل الاب وهو نائم وضممناها الى هذه الحادثة يمكننا ان نشير الى ان الجريمة التي ترتكبها المرأة تجاه الاسرة تتم اثناء نوم الضحية فالمرأة نتيجة لاحساسها بضعفها تختار التوقيت الذي لايصبح المجني عليه قادراً على الدفاع عن نفسه.
وجريمة المرأة سواء تجاه الأب كما في حادثة مكة او تجاه الزوج كما في حوادث اخرى تنطلق عادة من اسباب اجتماعية تستشعر من خلالها المرأة بأنها تدافع عن حقها او صلاحيتها او ارادتها دون ان يعني ذلك اعطاءها مبرراً لفعل ما تقدم على فعله.
بعد ذلك عله يكون بإمكاننا ان نرصد لجريمة قتل الابوين جملة من العوامل من اهمها:
- تعاطي المخدرات
- البطالة المرتبطة بالعوز والحاجة
- الطمع في الإرث
- التخلص من قرار اتخذه الاب يمكن له ان يؤثر على مستقبل الابن
- المرض النفسي والاختلالات العقلية
- ويظل العامل الاهم والاقوى هو غياب الحس الديني غياباً تاماً.


http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/200.../Art_31142.XML