يومٌ مخيّب للآمال __بقـــلم القيصـــــر
يومٌ مخيّب للآمال
[ALIGN=CENTER]أستيقظ من نومي المضطرب وأبقى مستلقيا على سريري هو اليوم الثالث الذي أُحاذر ...يوم السفر البغيض ...والعودة كم أكره هذا اليوم....
تعلق عيناي بأوّل شئٍ تراه فتسهم الى ماوراءه من الفراغ ويبدأ عقلي بالدوران بسرعة جنونيه وكأنه ذئب حبيس , مسكين عقلي لا يزال يدور وكأنه يبحث عن الجانب الهش من جمجمتي كي يخترقه ويفر هاربا مني ومن تفكيري المجنون...
أجرجر خطاي الى الحمام وأغسل وجهي فأشعر برغبة للقئ ...
أتراجع الى داخل الغرفه فأجد جدرانها قد أقتربت كثيرا من بعضها وسقفها يكاد يلامس رأسي فلا أكترث , هذا ديدنها في مثل هذا اليوم منذ 10 سنوات .
ألملم أغراضي وحاجياتي التي تبدو كثيرة جدا وأضع ما استطعت جمعه منها في شنطتي البائسه ببطءٍ شديد أشبه بالجمود....
في هذا اليوم أتحوّل الى (سلحفاة بورنيو )الهرمة في محاولة يائسه لاستيقاف الزمن ومنع حتمية اللحضة الاخيره
فأنظر الى مشنقة الزمن المعلّقة على الحائط أمامي فأجدها منهمكة في صرف الوقت الثمين بمنتهى الجديّه ,فأود أن أصرخ بها كما صرخ (نيتشة ): قف أيها الزمن ......ما أروعك .
أفتح التلفزيون على قناة (c n n) الاخباريه بحثاً عن أي خبر قد يساعدني على الامتناع عن السفر ...كقيام حرب عالميه ثالثه أو موت ضخم أو غزو مخلوقات فضائيه للأرض......
وكالعادة الأخبار المناسبة لا تأتي في الأوقات والأمكنة المناسبة.
تجتاحني لحضات تردد عارضة ونزقة تدفعني كي أشاكس هذا القدر ليوم واحد وأؤجل سفري الى الغد , ولكنها لحضات تشبه تلك التي تمر بواضع الرسالة في صندوق البريد فما عاد بمقدوره أن يستعيدها أو أن يغيّر حرفا واحدا منها.
قبل خروجي من الغرفة أقوم بإغراق أغطية السرير والستائر وموكيت الأرضية بعطر (أمواج ) ذو الرائحة القوية النفّاذة التي لا تزول بسهولة ...ثم أغلق الباب خلفي.
أنزل على الدرج في طريقي للخارج وأقف عند باب الصالة حيث تجلس أمي ولا أدخل اليها هربا من حصان الانفعالات الجامح المختبئ في صدري وصدرها, فأقول لها من خلف حجاب ودون أن أراها وتراني :
((يمة ...قولي لعبدالله (أخي ) ياخذ ملابسي اللي خليتها في الغرفة فوق ويوديهم للكوّاي (مصبغة الملابس) وإذا جابهم يعلّقهم داخل الكبت )).
هي نفس الكلمات التي أعتدت أن أقولها واعتادت أمي أن تسمعها في كل يوم سفر مماثل وهي رسالةعزاء مني لنفسي أولا ثم لأمي بأني سأعود قريبا....
هذه الثياب جزء من ذاكرتي فإن لم أستطع أنا البقاء حيث أحب فلتبقى ذاكرتي .
أقول : يمه في أمان الله ,أنا ماشي .
فترد بهدوء : أمّنتك الله وسوق اشوي اشوي.
فلا أرد وأظل واقفا حيث أنا أسترق السمع كشيطان ,علّها تقول : تعال , لا تروح يكفي ال10 سنوات الماضيه.
ولكنها لا تفعل فأقول علّها تدعوني لتقول لي كما قالت والدة (عبدالله الأحمر ) له بعد أن أضاع الحكم : ابك ياولدي ابك
ولو أن أمي فعلت لرميت غترتي وعقالي ولأرتميت في حضنها الدافئ الذي يعرفني جيدا كما أعرفه رغم افتراقنا منذ 30 عاما , ولبكيت كما لم أبك من قبل ولذرفت دموعا قديمة جدا ولنشجت نشيجا معتما لم ير النور منذ أمد بعيد.
ولكنها لا تفعل ذلك أبدا
هذه العجوز لا تُصدَق , اعتادت في مثل هذا اليوم أن تغيظني كثيرا .
في طريقي الى خارج البيت أتمنى أن تٌسرق سيارتي ولكنها تخيّب ظني ,فهاهي في مكانها منذ البارحه.
أتمنى ألاّ يدور المحرك ولكنه يدور , هذه اللعينة تستمع بكونها آلة زمنيه تنقلني من المكان الأحب الى المكان الأكره .
أقود اللعينة ببطء علّني أجد من يصدمني ...فلا أجد أحدا
هذا يوم مخيّب للأمال بالفعل .
أدور حول البيت عدة دورات قبل أن أنطلق باتجاه الهم الشمالي.
أضع الشريط المعتاد في مسجلة السيارة فيصدح محمد عبده
بالأغنية المعتادة :
طال السفر والمنتظر مل صبره **** والشوق يامحبوب في خافقي ذاب.
عندما قال (رولان بارت ) بأن الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل,
فإنه لم يكن مصيبا ولم يكن مخطئا أيضا .
ولكن عندما صفع (عادل إمام) ذلك المتطفل في المسرحية الشهيرة وقال له : وانا ناقصك ياخويا , مش مكفيك الهلمّه دي كلها .
فإنه كان أكثر تشخيصا ودقة من (رولان بارت )
وهذا ماقلته وأنا أرمي (محمد عبده) من النافذة وفي نفس المكان الذي أعتدت أن أرميه به في كل سفراتي السابقه.
عندما تتصل أمي بعد فترة من الزمن لتطلب مني العودة لزيارتها , أعرف حينئذ بأن العطر قد زالت رائحته تماما من الغرفة .[/ALIGN]
[ALIGN=RIGHT]بــــقلم أستــــاذ.... قيصــــــر[/ALIGN]
[/align]