أنفاسها تضيق , وتضيق كذلك حجرتها التي تصطبغ بلون السماء صافية في وضح النهار ..
تشعر وكأن جدران غرفتها الأربعة تزحف نحوها , ويوشك السقف أن يطبق عليها ..
تنظر للساعة على الحائط .. تسأل عقرباً يُمضي الثواني :
تُرَى .. كم من الدورات بقي لكَ حتى يعود ؟!
خُيّل لها أن الساعة من فرط سرعتها تفقد عقاربها !
أسرعت باتجاه باب الشرفة تفتحه , تبحث عن هواءٍ تتنسمه ..
نسماتٌ باردة برودة حانية تتخلل رئتيها , ستائر الشرفة البيضاء ترتفع , وكأنها أجنحة تنفرد لتطير بشرفتها ..
مكثت وقتاً تتأمل الخاتم الذي يطوّق إصبعها ..
لا تدري كم طالت لحظات انحناء رقبتها وهي تحدّق في الإصبع والخاتم الذي لم يفقد بريقه بعد .. لازال جميلاً كما ألبسها إياه أول مرة ..
كانت دائماً تحافظ عليه ...
قبل ثلاثة أشهر استبدلت الماسة التي سقطت بواحدة جديدة , وهي تواظب على صقله وتنظيفه , فيغدو أجمل وأبهى ..
تسع سنين وهي تلبسه في يدها اليمنى ..
تسع سنين منذ أن رحل ..
وسبع سنين وثمانية أشهر منذ آخر رسالة وصلتها منه ..
لم تحاول أبداً أن تطفئ شمعةً واحدة طيلة أيام الغياب, كانت تشعل الشموع بعدد السنوات التي مضت بدلاً عن إطفائها ..
كانت بحاجةٍ لشعاع ضوءٍ يشق ظلمة الليالي التي مرت ليلة تلو ليلة..
كانت بحاجةٍ لدفءٍ يذيب صقيع الغياب الذي يتراكم يوماً بعد يوم ..
ولم تتوقف للحظة عن جلد نفسها بسياط اللوم والندم !
لم تقف للحظة تتساءل لماذا لم يرسل , هل لا زال يحبها ,
أم هل تراه نسيها وقرر الرحيل للأبد ؟!
كل تلك الأسئلة ستبقى دون إجابات , وسوف تدفع عمرها كله ثمناً للبحث عن إجابات لا يملكها سوى الزمن فيكشف عنها بعد فوات الأوان .. سؤالٌ وحيد يعيدها لنقطة البدء ..
لماذا سمحتْ له بالرحيل ؟!
لا شيء يستحق أن يدفعا بقاءهما معاً ثمناً له ..
كل شيء كان سيصبح أجمل .. حتى التيه والتعب سيكون لهما طعماً ألذّ ..
وهاهما يتقاسمان إثم الابتعاد , ومن يدري إن كانا يتقاسما ألم لحظاته أيضاً !
وهل باستطاعة أحدٍ أن يُجزّئ الألم ؟!
نظرت حولها .. أخبرها أحمد بأنها تطوق نفسها بدائرةٍ تماماً مثل ما طوّق ذاك الغائب إصبعها بخاتم !
الخاتم الذي يزدان في يدها , ومع حركاتها ترسم ماساته ببريقها خطوطاً عشوائية في فراغ يفصلها عنه , ويزيد وعيه باتساعه بعد كل مرة تقع عيناه عليه ..
قال لها : يا هند .. لقد ألقى إليكِ بوعود لم تتحقق ..
أحاط إصبعكِ بخاتم , وقيدكِ بآمال وعهود ..
تحافظين أنتِ على خاتمه , وتركَ هو آمالكِ وعهودَه تصدأ وتتآكل !
أخبريني يا هند .. هل لازال لديكِ أمل بعودته ؟
اسألي نفسكِ بالصدق الذي تحبينه به , وأجيبيها ..
لم تملك هند إجابة , ولم تبدي أي مقاومة :
= أحبه , وسأظل أنتظره .
- قلبكِ لا يزال معشباً بالحب , لكنه لم يعد رطباً ..
لقد أنهكه الجفاء يا هند .
= أفتقد حنانه .
- تفتقدين تواجده وقربه ..
تفتقدين روحاً تحبينها , ودفء جسدٍ يلتصق بك ..
أنتِ لا تملكين منه سوى الذكرى ..
حرري نفسك .. فعمرك زهرة يقتطفها الزمن يا هند .
= الحب الصادق يكبر مع مضي كل يومٍ يا أحمد .
- حبه لكِ , أم حبكِ له ؟
= حب كلانا ..
- كلاكما لا يدري عن الآخر شيئاً .
= أحمد .. ماذا تريد ؟!
- أريدكِ
رفعت يدها ..
= ألا تبصر هذا ؟!
- بريقه رماح تُغرس في جسدي حتى العظم يا هند !
= كفاك يا أحمد .. !
- هذه هي المرة الأخيرة التي أحادثكِ فيها بهذا الشأن..
لن أطلب لقاءكِ ولن أتعرض لكِ مرة أخرى قبل أن يصلني منك رد أخير
فكري ملياً , و أخبريني بقراركِ الأخير , وأعدكِ بتلبية مطالبكِ كلها..
وتذكري .. وعدي وعد القريب , ولن يكون سراباً تتبعيه واهمة ..
أتركك لنفسك فهي أرحم بكِ .. !
إلى اللقاء ..
تلتصق بعمود الشرفة ودموعها تنساب دون توقف ..
مضى على ذهاب أحمد عشرون يوماً ..
علّه يئس منها وروّض نفسه على أن يعيش بعيداً عنها ..
أخطاؤها تتكرر ..!
لازالت تلتصق بالعمود , تمتص برودته , وتمنحه صقيعاً ..
شعرت وكأنها تلتحم به فتستحيل تمثالاً رخامياً ..
رفعت عينيها للسماء , أبصرت نجوما تلتهب دون أن تترمد ..
تمنح نفسها نوراً ودفئاً , والسماءَ جمالاً ..
بدرٌ من البعيد يعكس نوراً شاحبا ..
كان القمر دائماً يهيج أحزانها , القمر الذي تستر الشمس قبحه وتمنحه نوره الشاحب ..
زفرت تنهيدة عميقة ..
خلعت خاتمها .. ومضت تودعه صندوقاً تحتفظ فيه برسائل الغائب ..
حملتهم معاً .. وتركتهم للنار تؤكلهم ..
......
الشمـــــس