- عام آخر وأنا تائه بين وجوهكِ في غابة مراياك، فمن أنتِ؟

- أنا ذاكرة لا تريد أن تفقد ذاكرتها. وأنت، من أنتَ؟

- أنا رجل استطاع الحصول على كل شيء في الحياة. ثمة شيء واحد ينزلق من بين أصابعي: إنه الحياة!

- لأنكَ شفاف توهّموك زجاجاً هشّاً. وكنتَ رجلاً قُدَّت روحه من ألماس صلب!

- حين أكتبُ عنكِ، يتحوّل قلمي الرصاص بين أصابعي إلى شجرة حية.
لماذا هجرتِني ما دمتِ لا تكرهينني؟

- أن تجيء إلى المقهى متأخراً يومين عن موعدنا، وتجدني ما زلتُ جالسة ً في انتظارك، أدفّئ فنجان قهوتك بيديّ وأنفاسي:
هذه فكرتك عن الحب!

-ألا تبالغين؟

- مأساتي أن حبي مبصر، مجنون لكنه يرى بوضوح.
حين احتضرتُ على طاولتكَ كـ سمكة، مرمية فوق صخرة، أمطرتني بسكوتك. وحين سقطتُ على الأرض مثل جريدة عتيقة لم تنحن ِ لتلمّني!

- وهل أنتِ سعيدة بانتصارك؟

- لستُ أكثر من ريشة في مهب الظلام والثلج والذاكرة، وانهيارات مناجم السنوات.

- ألستِ غريبة الأطوار بعض الشيء؟ تلاطفين خناجر الماضي؟

- سئمت حرفة الوداع، لا أريد أن تتخذ العلاقة مع ما كان صورة القطيعة. أكره التنكر للذين يسبحون في دورتي الدموية!
وأنتَ أما زلتَ على قيد الحب؟

***** ***** *****

- ما زلتُ على قيد الحب والحياة والجنون، فأين نلتقي؟

- سنلتقي عند النهاية الأخرى للمطر! لن أدعك تخترق أسوار روحي مرة ثانية ً برمحك المتوّج برايات شهريار المنتصر.
ذكرياتي الآتية تقول لك: كل عام وأنت بعيد!

- ولماذا ترضين باستجوابي لكِ؟

- قليل من الاستجواب ينعش قلب الصمت!

- هل ترضين بمهنة الفراق؟

- مهنتي؟ سجّانة لمشاعري نحوك!
ما زلت أتذكر كيف أوسعتني حباً. معك تعاقبت المنافي على قلبي.. والحرائق..

- ولكنني أحببتكِ وما زلت!

- ثمة أنماط من الحب تشبه الاضطهاد.
معك، أفضّل التعايش السلمي الفاتر، فلا تطاردني حتى عقر أحلامي!

- كم أسبوعاً في كل يوم من أيام الفراق؟

- كل يوم فراق سنة ضوئية. ولكن، بعدما مزّقتني ومزّقتك مثل رسالة لا نريد أن نعيد قراءتها، لماذا تريد أن نحاول عبثاً إعادة إلصاق بقاياها لنجدّد تلاوتها.. بأحزان وميتات لا تُحصى؟

- لا أريد أن أخسركِ في هذا الليل الماطر المُظلم، ليل الاختناق والرتابة والعمر المعلّب والأصدقاء الألداء!

- حتّامَ تصهل خيولك وتهرول أفيالك فوق شطرنج أيامنا؟
لقد ربحتَ الحرب يا صديقي، وخسرتني!
حين تحدّثني عن الليل، أعرف أنك تعني لعبة شدّ الحبل.
وحين تحدّثني عن المطر، احصي هداياك لي من صرر البكاء.
وحين أزورك في غرفتك المسائية وتفتح النافذة على الريح، تفوح رائحة المنافي والموانئ والقطارات في محطات الليل.
وحينما أفكر بوطني البعيد وأنا معك، أشعر أنني خاوية مثل زجاجة نبيذ رمى بها بحّار ثمل في عتمة البحر، وأعرف أنكَ لستَ البديل.
وحينما تقهقه بلا مبرر، يخترقني حزنك كـ السكين!

***** ***** *****

- يبدو أنني أنزف بلا جدوى أمام أحزانكِ المطهمة!

- بعد قرون من تيهك بين العصور والنساء والوجوه والشهقات والتّقمصات العديدة، التقينا مرة وكان القمر بركة من الزئبق المشع في غرناطة.
وما زال ظلكَ يلاحق ظلي، داخل المرايا الفضيّة للأمسيات الغابرة، والأيام الأثرية الهاربة.
ما تزال المرآة تشع كلما طلينا وجهها الآخر بهباب أحزاننا، وتتوهّج ممتلئة بنا في خواء القرون المتتابعة.
وثمة غجري يضيء مصابيح البكاء وهو يُنشد على غيتاره كل ما خططته لي فوق صفير البواخر الراحلة، وما علّقته من مناشير الحب فوق أسوار الريح.
وثمة غجرية ترقص لعزف جنونه وتغرس كعبها المدبب فوق أوراقك، وتسقط الوردة الحمراء من شعرها الطويل الفاحم على حضنك.
وثمة طفلة ضالة في الغابة، خطّ الشيبُ شعرها، تطارد فتات خبز الذكريات، كي لا تضل الطريق إلى "الغيبوبة" في الهزيع الأخير من الحنين.
تاريخي معك طويل، أعيهِ داخلي ولا أستطيع إثباته للكومبيوتر ولا لمحاكم التفتيش الأدبية.

***** ***** *****

- ألا تريدين الاختباء من العاصفة؟

- أفتّش عن نورس ٍ ثمل بالفضول مثلي، يظل يحلّق في العاصفة بلا وجل لنرحل معاً..
نطير ونحن نقرأ كتاب الرعد والسّحب المجنونة في ضوء البروق،
نغسل حبّنا بالمطر المتوحّش، وقد لسعتنا الصاعقة وشبّت النار في أجنحتنا حتى الثمالة.
لا أخاف الموت. أخاف الرتابة!
مرة، كتبت إليكَ بلا حروف، وحاولتُ التواصل معكَ بلا أقمار اصطناعية.. سطّرت رسائلي على صفحة أثير التخاطر ولم أكن أعرف أنكَ تجهل هذه اللغة، وترتاح إلى أبجدية المجاملة المروّضة..

- مَن هو صديقكِ الوحيد؟

- القارئ!

- وماذا تقولين لقرّائك؟

- إليكم جراحي، فادخلوها بسلام مُطمئنين!



6 - 1 - 1995م
غادة السّمان