فضيلة الشيخ




توفيق بن سعيد الصائغ



فجرها البوعزيزي في تونس ، أضرم النار في جسده ، فانبعثت رائحة شواء اللحم في الهواء لتنتقل من حيز جسده إلى كامل التراب التونسي ثورةً عامّة ، بارك الناس النتيجة ونسوا المقدمة ، احتفلوا بالنهايات فماذا عن البدايات ؟





بسرعة البرق انتقلت العدوى سريعاً كعادة التقليعات والموضوات التي تذهب بألباب العرب ، وتخلبها لنسمع عن حريق في مصر ، ونشتم شواءً آخر بالجزائر وموريتانيا ، وعواصم أخرى .. هكذا وجد الغاز وعود الثقاب في الأجساد البائسة اليائسة فضاءً رحباً وسوقاً رائجة بعد أن انقطع استعمالهما حتى في البيوت !!




لو كان الانتحار جائزاً ، لو قُدِّر أن قتل النفس مباحٌ لكان اختيار النار سفهاً في العقل وانحطاطاً في التفكير .. نعم ، كيف لإنسان أن يتجرع الألم ، -وأي ألم- ، حتى آخر نَفَسٍ من أنفاسه ؟!




عقلاء المنتحرين – إن صح التعبير – هم الذين يختارون أسرع الوسائل موتاً وأقلها إيلاماً ، أمّا النار فحسبك أن الله اختارها لتكون العذاب السرمدي لمن كفر به وجحد ألوهيته .




فرح الناس بالعاقبة ، وقطف التونسيون ثمرة الشرارة التي أضرمها البوعزيزي في جسده ، ولكن ماذا عنه ؟




ماذا عنه والله يقول : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نُصْلِيْهِ ناراً وكان ذلك على الله يسيراً) ؟




ماذا عن البوعزيزي والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول : (ومن قتل نفسه بشيء عُّذِبَ به في نار جهنم) ؟




إن الداخل في النار طوعاً أو حتى كرهاً بأمر أمير يوشك إن اقتحمها ألاّ يخرج منها ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار ، وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب ، فقال : أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى ، قال : فاجمعوا لي حطبا ، فجمعوا ، فقال : أوقدوا نارا ، فأوقدوها ، فقال : ادخلوها ، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ، ويقولون : فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار ، فما زالوا حتى خمدت النار ، فسكن غضبه ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة ، الطاعة في المعروف ) .




نسي الناس مع نشوة النتيجة أن ما أقدم عليه البوعزيزي كبيرة من الكبائر ، وأكبر منها أنّ الأمر بات سنة سيئة يتكرر فصولاً في عالمنا العربي ، فعلى مَنْ وزرها ، وتلحق مَنْ تبعتها ؟




كم أنا حزين وأنا أسطر هذه الكلمات التي لولا التبعة الشرعية ، وواجب البيان الذي أخذه الله على من عندهم مسكة من علم ما كتبته ، كم آسف على الرجل الذي لا تبرر مظلمته أياً كانت أن يفعل بنفسه ما فعل .. كم آسى عليه ، لا هو بالذي سلم من التبعة ، ولا هو بالذي أدرك الظفر !!




كتبت هذه الكلمات طالباً أن يضع الناس حداً لهذه الرائحة ، رائحة الشواء المنبعثة من الأجساد في عالمنا العربي ، أن يضعوا حداً لقتل النفس ، فالله يريد لها الحياة لا الموت ، والغاية لا تبرر الوسيلة ولا تمررها .. وإنا لله وإنا إليه راجعون