من بعض ما قرأت
(( وسألته مرة أن يكتب إليها في أوصاف الألم وفلسفته , قالت : لأن قلبي يجد فيك يا أستاذي .. من يؤلمه , أعني يداويه مما يؤلمه !
فكتب هذه الرسالة :
وأنا والله ياحبيبتي كسار وقع في ظلمة مدلهمة تحت ليل كأنه رماد قد هيل على جمرات النجوم فأطفأها . وهو على ذلك يخبط في قفز أشد وعورة وأستغلاقاً من جفاء الحبيبة الهاجرة المتعنتة : لا يعرف الطريق الذي يؤدي إليها كأنها ليست في جهة , ثم بينا هو يعتسف وقد ضل ضلاله شام البرق فحسب الملائكة جاءته من فوقه تحمل مصباحاً , ولكن ظلام حظه جعل الملائكة أيضاً تطفئ مصباحها وتدعه لما بين يديه ...
وكذلك أطفأت أنت حتى كلمات الأمل , التي هي كالبرق تضئ ولا يثبت منها شئ , وتلوح معانيها ثم إذا هي مظلمة من كل معنى .
وتركتني لآلآمي كالحنظلة المرة , لو أنك أمسستها قطرات من العسل لما أحلتها ولا بقيت حلوة .
لا .. لا , بل قطرة واحدة من هذه القطرات تجعل حنظلتي كلهايا حبيبتي قرصاً من العسل ما دامت منك .
تريدين أن أكتب أوصاف الألم وفلسفته ؟ ألا فاعلمي أن آثارك في هي كتابي إليك .. لا ..لا , بل سأتكلم عن آخرى مثلك هي .. هي الحياة.
أكثر تكاليف الحياة في ألمها وتعبها كأكثر أمراض الحياة , فهل من هذا إلا أن كل أنسان مريض ما دام حياً _ بأنه حي ...؟
ونعيش بين الأشياء والمخلوقات , ومنها ما يسرنا كأنه أجزاء في وجودنا قد زيدت علينا ومنها ما يؤلمنا كأنه أجزاء قطعت منا . فهل يؤخذ من هذا الإنسان مادام مضطراً فهو مريض بأنه مضطر ...
فأين إذاً يلقي الحي آلامه وفي جسمه مرض يخلقها مندفعة منه وحول جسمه مرض آخر يردها راجعة إليه .
أهما مرضان في القوة أم سجنان للقوة ؟ أم الألوهية تحقق بهذا الأسلوب الجبار قدرتها في ضبط هذا الإله العقلي المسمى الإنسان فشدته وثاقاً من شعوره بآلامه . وجعلت أكثر معانيه الإنسانية هي أكثر سلاسة .
إنما أمر الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون , ومن شقاء الإنسان أنه طول حياته يزور كلمة الألوهية ( كن ) ويريد أن يقبض من الأشياء قيمتها ..... !
وأشد ما يؤلمه أن يهزأ منه ما يقول له ( كن ) فلا يكون منه شئ , فالحكيم لا يتألم إلا آلم الحكمة , والجاهل يتألم بآلام الخيبة والعقاب .
على أن كل ألم لو حققنا راجع بلذة أو حكمة أو منفعة , وأفراحنا وأحزاننا _ على تناقضها تلتقي كلها منسجمة في الحكمة الأزلية التي قدرتها لمن يفرح و من يتألم .
وما أشبه آلام الإنسانبألم الطفل المدلل . نراه يحزن لكثرة ما يفرح ويحول ابتسامته دموعاً في عينيه فيتغير في صورته دون أن يتغير في معناه , فيضحك باكياً , ويشكو فتكون شكواه طريقة مرح في غير شكلها ويكون في نفسه معنى واحد ولكن وجهه الغض اللين يضع لهذا المعنى أساليب مختلفة هي أنواع من ألأعاب الطفولة .
إننا نسر حين تخضع لنا القوة المحيطة بنا فتؤاتينا , ونألم حين تتمرد علينا . ولكن يا ويحنا ! ألا يجوز أن نكون نحن قد تعالينا ففتناها وتكون آلامنا آتية من سموها على المادة , كما ترى وجه الفيلسوف عابساً تحسبه منظر لوعة وهو منظر فكرة سامية ؟
ترفعنا الهموم والآلام , لأن عواطف الحزن والشقاء لا تكون إلا من سمو , وهي لا بد أن تكون لأنها وحدها الحارسة فينا لأنسانيتنا , إذ تخلق مع حياة الجسم المادية حياة معنوية للقلب , ونحسها من فقد ما نفقده , لأنه لا بد للضمير الإنساني من صوت أليم يقول له أحياناً: أنت سماوي فاترك هذا , وكأن كل لوعة ألم يحسها المرء هي صرخة عاطفة جديدة ولدت في النفس !
حين يموت الميت العزيز يولد من موته لذويه الحزن عليه .. تلك بعينها هي طريقة خلق الفضيلة , نفقد شيئاً فنجد من فقده معنى .
والمرأة بكل قواها ترعى طفلها وتحوطه وتربيه , ولكن ابنها بكل ضعفه يربي عواطفها ويرعاها ويحوطها , وإن دمعة ليجعلها ترى للأشياء مدامع ..فهو خالق فيها لأنه مخلوق منها وهذا هو التفسير الذي لا غموض فيه , لأنه هو ذاته الغموض الذي لا تفسير له .
وكذلك آلامنا هي أطفال معانينا .
وقفت يوماً على شاطئ البحر , فخيل إلي أنه عين تبكي بها الكرة الأرضية بكاء على قدرها , وتأملت الجبال فحسبتها هموماً ثقيلة مطبقة على صدر الأرض , وفكرت في البراكين فقلت لوعة أحزانها تثور وتهمد .
ثم رجعت بهذا النظر في الإنسان , فإذا له على قدره بحر وجبال وبراكين .
عند الطبيعة : لا ألم ولكنه نظام , وعند الإنسان : لا نظام ولكنه ألم ...
ولعمري , لو أتى للأقدار أن تخاطب البائس المتألم لكان الخطاب بينهما جملتين من القدر وحرفاً واحداً من البائس على هذا النسق :
القدر : هل عرفت السر ؟
الإنسان : لا
القدر : ويحك هذا الذي أصابك بعض السر !

عذراً على الإطالة ..