[align=right] كان الفصل ربيعا، والطبيعة خلابة زاهية كالعروس التي تلبس أفخر ثيابها وتستعد للقاء الحبيب، فلم يجد السلطان المولع بالصيد أدنى مقاومة لهذا الإغراء الطبيعي الذي يذهب الألباب...امتطى صهوة جواده وحمل بندقيته وأومأ إلى الحرس ليرافقوه للاستمتاع بهذه الهبة الإلهية وممارسة طقوسه الاعتيادية...
صادف هدا اليوم غياب حاجبه وصديقه ورفيق رحلاته السابقة الذي تعود على مصاحبته في الحلول والترحال، وذلك لأول مرة، حيث كان قد وضعه في السجن مند شهور لكونه حمد الله وشكره حين علم بقطع إبهام وسبابة السلطان إثر حادثة عابرة. استاء هدا الأخير وعربد وأزبد،ولكن الحاجب ازداد حمدا وشكرا حتى بعد دخوله السجن.
تفاجأ السلطان وتساءل في قرارة نفسه،كيف لصديق العمر أن يخون بهدا الشكل، وألا يحزن ويتألم بدوره لما وقع، ثم ماسر هدا الإصرار على الحمد والشكر حتى في أحلك الظروف وبين براثن المآسي والأحزان؟
لم يجد الجواب وظل الأمر غامضا بالنسبة إليه، فتركه يقبع في ركن من أركان ذاكرته المتخمة بملذات الحياة..كما يقبع صديقه بين جدران الزنزانة.
صار الموكب يقطع المسافات، والسلطان يتلذذ باصطياد الحيوانات، إلى أن وصل إلى مكان جميل اجتمعت فيه كل الخيرات: مياه صافية وحقول أزهار وأشجار صفصاف عالية، حينها قرر أخذ قسط من الراحة هناك، فترجل رفقة مرافقيه وافترشوا الثرى، والتحفوا السماء، واستسلموا للخيوط الذهبية التي أرسلتها أشعة شمس المغيب، لتدغدغ أحلامهم وترسم على أجسامهم خرائط اللذة والاستمتاع..
فجأة، وفي غفلة عن البنادق والذخيرة، هجم عليهم فرسان ملثمون، فقتلوا أعوانه واتخذوه رهينة، كانوا يبحثون عن شخص ذو باع وجاه ليقدموه قربانا إلى زعيمهم، ليذله ويجعله خادما حسب أعراف القبيلة..
أخذوه مزهوين بالغنيمة، ومبتهجين بالاحتفال الذي سيقيمه زعيمهم تلك الليلة..وقبل أن يقدموه إليه مكبلا ذليلا، فتشوا أغراضه وفحصوا جسمه، فاكتشفوا الحقيقة، حقيقة أنه لايصلح ليكون سبية ولا أن يقدم كهدية، فسلموه أمتعته وأطلقوا سراحه دون أن يخبروه بسر القضية.
عاد السلطان إلى بلاطه منكسرا، منفردا وأخبر من بقي من حاشيته بما وقع له دون أن يعرف لذلك سببا، فأقسم أنه لن يرتاح، ولن يهدأ له بال أو يرسو على قرار قبل أن يعرف سر هذه الواقعة التي لم يتعرض لمثلها أبدا ولم يسمع عن أخبارها من أحد.
بدأ يستدعي عامة الناس وخاصتهم ،لعل أحدهم يخبره بسر ما وقع له أو يفسر له بعض عادات وتقاليد تلك القبيلة ولماذا تم العفو عنه في آخر لحظة؟ لا أحد استطاع أن يشفي غليله أو يطفئ حرقته أو يحل عقدته التي تؤرق كيانه كله.
في خضم هده الأحداث، تذكر صديقه المسجون الذي كان دوما يتميز بالورع والحكمة، فاستدعاه على وجه السرعة ليدلو بدلوه في هذا الجب الذي غرق فيه السلطان، ولا يعرف كيف يخرج منه إلى بر الأمان وهدوء النفس..
حضر الحاجب بهدوء ورباطة جأش كالعادة، وما أن كلمه السلطان حتى بدأ يحمد الله ويشكره من جديد.غضب السلطان ونبهه إلى أنه في موقع لايسمح له بأكثر من تفسير ماوقع إن كان يعلم.
ابتسم الحاجب بكل ثقة وقال له: ألم أقل لكم احمدوا الله في السراء والضراء، فهوالذي يعلم سر كل ابتلاء ؟
فأما عن الأصبعين اللذين بثرا ،فهما سر الإعفاء عنك لأن شرط تقديمك كهدية لزعيم القبيلة ، هو سلامة جسمك الكلية من كل خدش أو ندب أو جرح.وأما عن الحمد والشكر لله عند دخولي السجن ،فدلك لأنني لو لم أكن مسجونا ، وكنت معك في الرحلة لكانوا أخذوني عوضا عنك، لأنني صديقك ولا أقل عنك همة أو جاها، ولأن جسمي خال من كل علة أو عاهة،وهذا يحقق شرطهم المطلوب
لهذا حمدت الله وأحمده دائما على كل إصابة أو ابتلاء. فخير لي أن أعيش في زنزانة على أن أعيش ذليلا بلا كرامة، وخير لك أن تعيش بدون إبهام ولا سبابة على أن تعيش عبدا خاضعا بعد أن كنت سيدا مطاعا..[/align]