-------------المتطابر-------------



بدون تفكير يأخذ "عمر" مكانه فى الطابور ..

لحظة ويأتى صبى من صبية الورش ،ويقف خلف "عمر":

- حاسب يا ابنى

- ................

- آسف يا حاج ،الولد دفعنى

- ولايهمك يا أستاذ..يارب

- كل شىء بأوان..

قالها"عمر"للرجل الذى أمامه ،وسكت..

لحظات، ثم بدا "عمر" محشورا فى طابور طويل، والطابور يتسلسل،مع الرصيف يتطاول، وبمداخل البيوت يلتصق، ومن أمام المحال ينحنى، والملل يأكل أطراف الواقفين ،

وثمة إجماع بأنها ستمطر..ستمطر حتما.

كل السحب هنا رمادية قاتمة،كالخنافس تزحف على وجه السماء ،والريح تثير الغبار من حواف الرصيف الى وجوههم ،والجو به لسعة برد تحدث فى كل منهم رعشة خفيفة ،والصبر سحابة كبيرة فوق الصدور .



"حمادة "عامل المخبز يقترب ،وبين ذراعيه طاولة مكتظة بالأرغفة.. شفتاه الخشنتان وبينهما سيجارة ، تتمتمان بالعد.ينصرف أحد الواقفين ثم آخر، ويبتعد "حمادة"بالطاولة فارغة..

همهمة تسرى فى المكان، بين الحين والحين تمزقها عطسة من أحدهم، أوتمخط آخر،

والطابور يتسلسل، والصبر سحابة فوق الصدور ،وثمةإجماع بأنها ستمطر ..ستمطر حتما.



"عمر "تستغرقه لحظات من الهدوء..يظهر ساهما،غير مهتم بما حوله من أحاديث تنمو فوق الشفاه المرتعشة كالعشب، وأصوات تعلو فى المكان، تتقاطع ثم تتلاشى..

بنطاله مترب من عند مؤخرته..قميصه قطنى رخيص،لم ير "عمر" لونه فى الصباح ..يومه يبدأسريعا ،ولو حاول إرتداء ملابسه بعناية لتأخرعن المدرسة ،حتى كوب الشاى لايدرى هل شربه أم لا ؟..

فى تفاصيل وجهه يظهر تعب ..عيناه اللتان لاتعرفان النوم الا بعد البحلقة فى ظلام الحجرة وقطرتين من الزيت، يتابع بهما الآن المسافة الفاصلة بينه وبين شباك التوزيع .

فجأة يسعل،وتنفلت خنفرة من أنفه..يخرج منديله ويتمخط..

من الواضح أنه زكام، لكنه فى نفسه ينفى ذلك سريعا..

صحيح أنه فى هذا الشتاء أصيب به مرتين؛الأخيرة ألزمته الفراش يومين متواصلين ،واضطر أن يأخذهما عارضة ..

وصحيح أيضا أن خروجه مبكرا ،ودفء الفراش مازال فى أنفه ،يزيد من إحتمالات الإصابة، إلا أن هذا ليس زكاما ،إنما هو بسبب غبار الطباشير الردىء العالق فى حلقه ،وهذا لايهم ، فسرعان ماسيزول بعد كوب من الينسون..



"عمر "ليس من الذين يرتادون المقاهى، لتتولد داخله خبرة بالمشروبات ،وليس من الذين يفهمون فى طب الأعشاب فهو مدرس لمادة التاريخ ،يفهم فى الفتوحات العربية والحروب الصليبة والدويلات ،وفى الثورات وأسبابها ونتائجها وغير ذلك ،لكنه عرف كوب الينسون وآمن بسحره، من يوم العزاء فى موت أبيه،وقد لاحظ أن المقرىء كلما تحشرج صوته طلب كوبا من الينسون ،يشربه، فيلعلع صوته من جديد..على أى حال يكفى أنه سيكون من يد "نجية"



"الينسون من يدك شفا"

تطرقع "نجية" ضحكة حادة قصيرة..



يعلو وجه "عمر" خيال إبتسامة..يلمح فى المسافة التى بينه وبين الشباك حجرا قد إنفصل عن الرصيف ،إن حاذاه يكون تقدم واحدا..إثنين ..ثلاثة..سبعة..إثنى عشرة..أربعة عشر، ثم لايبقى سوى خطوة عن الشباك، وقتها سوف يحسده الواقفون فى الطابور ، والطابور يتسلسل..

والصبر سحابة كبيرة فوق الصدور ،وثمة إجماع بأنها ستمطر ..ستمطر حتما.



"عمر "يستطيع أن يعد أرقاما لفترة،ثم يتوقف عند أحدها ليفكر فى موقعة حربية أو ثورة أو حدث تاريخى ،يوافق عامه هذا الرقم..

يستطيع كذلك إجترار درس اليوم فى ذهنه، وكيف إستمع اليه الأولاد،وهل فهمونه..هو يعرف أنهم أذكياء ،لكنه يصيح عليهم" ياأغبياء" عندما لايستطيعون التفريق بين عام موقعة وآخر..

كذلك يستطيع "عمر" أن يجعل الأسماء تنهال على رأسه ،ويفكر فى إسم يختاره لطفله المنتظر.

يستطيع "عمر "كل هذا وغيره، من قبيل التشاغل عن ساعات التطابر الثقيلة،كما فعل فى مرات سابقة،لكنه الآن يفضل أن يعد أحجار الرصيف ؛البيضاء منها والسوداء ..يعلم أنه لضعف بصره لن يعد الكثير ، وسيختلط عليه الأمر،لكن المهم أن يختار شيئا يشغله،دون أن يتململ..



"عليك ألا تتململ ،وتشغل نفسك بشىء ما"

ذلك أول ما يقوله لأحدهم ،ويذكر له كيف فى إحدى المرات تشاغل بمراقبة حمار، يتقدم خطوة بخطوة مع صاحبه فى الطابور..هكذا إذن، يجب من شىء ،لذا سيبدأ فى عد الأحجار.

يبتسم "عمر "فى نفسه.." نجية" تسوق الدلال لآخره..وهويحبها..يحبها،عيناها النجلاوان، شفتاها الممتلئتان، بشرتها الحليبية..

كل هذا زاد من إصراره عليها،دون "إنشراح" إبنة خالته،و"مرفت" إبنة عمه،

ومن يوم أن قال بعد أن تنحنح:"لم أجد عروسا خيرا من إبنتك نجية" وهو يحملها على أكف الراحة،

لايبخل عليها بشىء،ولابما بقى بين اليدين من سنوات الغربة، والتفتت فى بلاد الناس..عمل نقاشا، وعمل مبلطا، وعمل حدادا ،ونسى ليسانس الآداب قسم التاريخ..إلتزم بلقيمات على عجل، وبثياب رخيصة لايستبدلها إلابجلباب النوم فى (حوش) العمال المصريين،حيث كان الشخير هو رفيق هواجسه وأحلامه..



"كم كانت الأحلام جميلة"

يتصور "عمر " نفسه عائدا من غربته..

عناق وقبلات..

"كم كبرت ياعمر !"

"كم تغيرت ياعمر! وتغيرت ملامحك ،ولهجتك!.."

"شعر أبيض فى رأسك ياعمر!.."

أحاديث عن الإجراءات فى المطارات،الأوراق،التطابر أينما ذهب..

عدد كبير من أقاربه _ بينهم إنشراح ومرفت_ الجميع يؤكدون أن البيت نوّر..

يبتسم..

"إحك ياعمر.."

"لسوف أحكى الكثير،ولكن الآن فليأخذ كل فرد هديته،اللعب للأطفال..الأدوية للعجائز..الملابس للفتيات.."

العيون تتمسح به ،وعينا أمه تسأل :

" متى نفرح بك يا عمر؟"

"العمل أولا"

ويوافقه الجميع،لاسيما عمه"راشد" الذى طالما ندد بطبيعته المستكينة،وقال عنه

أنه بلا خربوش..

"خربوش..!؟"

"ماذا كان يريدأن يفعل الإنسان فى هذا العالم..!؟ حيث يذوب الفاصل بين الذل والحياة ..ويحيا الإنسان صمتا رهيبا ،وغدت الحياة لافتة كبيرة بالنيون ،نتطابر أمامها .."

والطابوريتسلسل..والصبر سحابة كبيرة فوق الصدور، وثمة إجماع بأنها ستمطر..ستمطر حتما.



بعد خطوات بلقيسية،تطرح الآن "نجية "فخذها الممتلىء على كنبة الصالة، تستدفىء بغطاء، وتتمدد ساهمة الى التليفزيون الذى يبدو متعطلا ،لايعمل ،لكن ماأن تهز "نجية" سلك الهوائى، وتدير أحد المفاتيح الى اليمين والى اليسار ،حتى يعمل ، كما كان من قبل أن تلوكه أصابع "نجية"ومزاجها وياله من مزاج ،متقلب تقلبا ..

لكنها طيبة القلب،طيبة الأصل ،حانية،تحبه..

يذكر يوم شكى لها ألما فى ظهره،ظلت يداها تمسح عليه ،ولم تنم حتى إطمأنت الى زواله ،أقسم لها أن يدها شفاء.



ينصرف أحد الواقفين ثم آخر .يتنهد "عمر"..ينظر الى الحجر ..يتثاءب بعمق..

يرتجف.

لم يكن "عمر "من الذين يمكن أن تغفل أعينهم وهم وقوف،حتى وإن كان بمثل هذا الميل للنعاس،فاذا قال أنه يحس الآن كف جدته فهذا ليس حلما ..هو يحسها الآن حقا..يحسها تمسح على رأسه،وتحذره من نسيان نفسه، ومن اللعب فى البرد.. ..وتضرب ذراعها فى كومة أرغفة بجوارها، وتخرج بـ "حنون" ،صنعته له ،له هو، من حكحكتها فى ماجور العجين..

بل هو يراها أمامه الآن.. تتلامح بوجهها، الذى بدا فى آخر أيامها مثل الحليب..تنزوى فى ركن من البيت ،وتشد بيديهاالمعروقتين –المتناثر فوقهما بقعا بنية اللون – ثوبها الأسود الى قدميها ،وتحرك شفتيها بآلية كأنها تلوك الصمت ،وعيناها غائرتان فى البعيد ..

فى أول يوم (خبيز) لم يجدها فيه جالسة أمام الماجور قالوا له أنها ماتت،

"ماتت ياعمر..ماتت."

ذهبت حيث ذلك البعيد..حيث الموتى فى هدوء القبور ..يغطى الصمت والصقيع ألسنتهم وصدورهم..

" أى فرق بين هذا القريب وذلك البعيد..هى لم تبعد غير خطوات ، القدر الذى يسمح لها فقط بأن تبرأ من التطابر.."



يشعر "عمر" ألما فى جوفه ، ومرارة تنسحب من حلقه الى داخله.تصعد وتهبط لوزته..يباغته الصبى من خلفه بلكزة ..يلتفت اليه ،بنظرته المعهودة منه لمشاغبى الفصل.

لم يهتم الصبى .تراجع "عمر" عن فكرة شد أذنه.

نظر الى أطراف حذائه،قدماه مكدودتان.. المشوار من المدرسةالى هنا يهد الحيل، كذلك الساعات الطويلة فى الفصول، بالإضافة الى هذا الطابور.

تنكمش زوايا عينيه. يفركها بسبابته، وبنفس الإصبع يدفع نظارته الى أعلى ،عادة تلازمه من يوم قال الطبيب :

"يجب من نظارة"

" حتما ؟"

"حتما.."

ولولا (حتما) تلك التى قالها الطبيب ما كانت الآن فوق أنفه.



ينتبه"عمر" والرجل الذى أمامه يتنهد "يارب"..

ينصرف أحدهم، ثم آخر وآخر ..

يلاحظ "عمر" أن الرجل الذى أمامه أخرج كيسا من صدره..كان عليه هو الآخر شراء كيس ، ليحمل فيه الأرغفة، لكنه لم يفعل ،فضّل أن يأخذ مكانا فى الطابور، وفى الطريق سيظل يقلب الأرغفة بين ذراعيه، وعند الباب سيخرج بإصبعه المفتاح من أحد جيوبه، لكن" نجية" ستهب وتهبش بقدميها (شبشبا) وتفتح الباب ، تلتقط عن ذراعيه الأرغفة :

"كان لازم من كيس"..

يرجوها "عمر" أن تخفض من صوت التليفزيون ..

"مسلسل معاد.."

تطوح "نجية " رأسها حتى يبان بياض لغدها..

"ونس.."



يبتهج "عمر " ..الآن يحاذى الحجر..

"هانت"

ولم يعد أمامه غير الانتظار،وانتظاره لن يطول،

يشعر"عمر" الآن أنه راكض فى سباق يقترب من نهايته ..ولم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير فى طفله المنتظر ..عمرُه يقترب من الأربعين ..وخمس سنوات وثلاثة أشهر وأربعة أيام مرت منذ زواجه ، سقط فيها من "نجية "حملها مرتين ؛فى الأولى قالت أمها أنه هذا الكرسى الثقيل الذى نقلته من الصالة الى الحجرة ، والثانية يوم زوّرها "الحسين " وسافرا بالقطار ، ليلتهالم تنم "نجية" حتى دوّت صرختهافى الحمام، وبين فخذيها قطعة من دم قاتم متجمد ، من يومها و"عمر " يحلم. يراوده الحلم أينما ذهب أو وقف..

هاهو الطفل أمامه يجرى ..

يخفق بين أكف الهواء ويراقص العشب ..

يمتشق الريح، ويضحك للسماء..

يشد فروع الأشجار الى ظلالها..

ويقذف فى وجه الطريق حجرا..

يرسم فى دفتره الشمس،ويعمل من الحروف أسئلة وسمك..

يعلن المطر،المطر..

إخلع فؤادك من صدرك ياعمر، وضع حجرا،

هذا فؤادك مكلوم ينتظر..

أفعال،لماذا يتحتم علينا أن نكررها!؟..

وضجر لايعقبه سوى ضجر..

نقضى النهار نهارا ،والليل ناكح وناكحة،

ونغتسل فى صباحات المطارحة..

نقف فى الطوابير ،وعند الأضرحة..ندور،

وندور..

وللبصل رائحة .

تفضحنى وتفضحك..

نلق السلام..نلق النكات،ونشرب الشاى المترّب والسكوت..

نراقب بيوت العنكبوت،وبطون النساء..

ولما نموت ،نموت من الضحك..



ينتبه"عمر" والريح تصفع وجهه .يسرع مشيته.

تصطدم أكياس القمامة الفارغة بمؤخرته وبين قدميه..

تلعب أصابعه فى جيوبه..

تفتح"نجية"الباب:

"كان لازم من كيس"

"مسلسل معاد.."

"ونس.."

يروح "عمر" عند النافذة .

يراقب الشارع والمارة والجيران وظلال أشباح خلف النوافذ:

"ستمطر.. ثمة سحابة كبيرة تبدو هناك..ستمطر يا نجية..

ستمطر حتما."

ـــــــــــــــــــــــــــ

محمد شمخ