وعي شقي
هناك نصوص تمتلكنا لحد اننا - ودن ان نعي ذلك - ننصهر فيها بعد ان نجد شيئا ما منا داخل ذلك المكنون الكامن فيها ، فلا نحس ونحن نجري مشدوهين بالحدث لا الى القفزات و لا الى المنعرجات التي يمليها تطور الحدث ، يمنعنا من ذلك الاندهاش و الانبهار و حب استطلاع جارف لمعرفة ما سيحصل .
كل هذا يمسح التباعد بين المبدع و المتلقي ، وينبئ على ان الكاتب قد امتلك القدرة من خلال قيامه بعلاقة تحويل ناجحة داخل نصه لا فيما يخص طريقة استيعابه لما اودعه نصه ، ولا فيما يخص صيغ التلفظ و نمط الكتابة .
بالعودة الى قراءة النص ثانية نكتشف ان الاولى قد امدتنا بمفاتيح لم تكن متوفرة من قبل . و ان جزئيات الحدث ما هي افرازات وعي شقي تمثلت في رفض لمختلف الاشكال و الاسئلة المنبئة عن تحول شمولي يهم الاشخاص و الامكنة و الازمنة . وتحول كل ذلك الى هاجس من ان يصير مصير شخصية الحدث الى ما انتهى اليه الناس .
على ضوء هذا نكتشف ان لا الوجوه وجوه ، ولا المدينة مدينة وانه بالفعل هناك خطا كما يصرح بذلك شخصية النص في مطلع القصة . و المقدمة كلها تشير الى هذا الاحساس و بوادر التحول الذي لم يستثن احدا لا المكان و لا الزمن . وان توقف الساعة هو ايذان بنهاية زمن و بداية اخر .
كل ما يحوم حول شخصية الحدث يبدو متهما . الصحف و الكتب و الافق و الهواء و الشارع و الناس الذين تحولوا الى روبوهات . كل شئ يتحول و كانهم تحت تاثير مكنة سحرية ينتج عنها حالة مسخ وتشوه . وهذا المسخ لا يعني في النهاية غير فقدان الانسان لذاته . فأن يفقد الانسان وجهه معناه انه فقد السمات التي تميزه عن الاخر . وان يفقد عينيه لا يعني سوى فقدانه لبصيرته . وفقدان الفم لا يعني سوى الصمت و المهادنة و الاستسلام . وكون الشارع مقفر ليس سوى اشارة لخلوه من الفاعلين الذين آثروا الصمت بعد ان اصابهم ما اصاب شخصيات النص .
الكاتب يترك النهاية مفتوحة كحدث ، لكنه يشير الى ان ما يحدث هو مجرد ظرف عابر ، وان الصيرورة هي الابقى بالرغم من انه لم يسلم هو الاخر بعد أن اجتاح الضباب بعض ملامح وجهه .
" الشمس كانت تغيب دائما وراء الجبل ...في الامس ...وقبل شهر ...وقبل آلاف السنين "
وهذا يعني ان ما يحدث الان ليس هو النهاية .
بهذا المعنى فقيمة هذا النص تكمن في انخراطه في تشكيله جدليات المجتمع وصراعاته وتحولاته ، ويحاصر افكارا مغلوطة بمقاومته صناعة الثقافة الاستهلاكية و الكتابات التبريرية . كما نجد فيه وعيا بجوهر الابداع ، ذلك الوعي الذي يقر بخصوصية الادب في بلورة كينونة الانسان و صوغ رؤياه ، و اسماع صوته خارج جوقة " الافواه اللامجدية" كما يقول الناقد المغربي الاستاذ محمد برادة .