مرحباً ..
ما الذي يربط بين الشعر والحلم والخرافة ؟ ما الذي يربط بينه وبين الشياطين أو الجنون أو الآلهة؟
ولماذا نتصور دائماً أن الشعر لا يقوله بشر من طين؟
لم نكن نحن العرب وحدنا من باعد بين الشعر وعالم البشر العاديين؛ فالشعوب الأخرى فعلت الشيء
ذاته: فصلت بين الشعر والناس، ونظرت إليه على أنه كلام خاص، ورفيع، وأثيري.. ولا شك أن
كلاماً بهذه المواصفات لا يكون من إنتاج الناس العاديين، ولن يكون مظهراً من مظاهر حياتهم اليومية،
فالشعر، كما يقول أرسطو: ناتج عن الموهبة أو ضرب من الجنون.
لذلك فإن الشاعر ليس إنساناً عادياً، هكذا تصورته ثقافات الشعوب وخيالها منذ القدم، إنه، في تصور تلك
الشعوب، كائن خاص جداً، وقد أهلته خصوصيته تلك إلى أن يكون مصدراً لكلام شديد التميز أيضاً.
كلام يتلقاه أولا عن طريق الإلهام الشعري ثم يقوم، بعد ذلك، بإنشاده على مسمع من البشر وعلى
مرأى من قلوبهم الهلعة أو الضاجة بالبهجة. الشعر والشاعر، إذاً، كلاهما خاصان لأنهما كليهما،
يرتبطان بالإلهام ونعمة المخيلة، وهدايا الآلهة.
ويبدو لي أن الكثير منا مسكونون، بوعي أو من دون وعي، بهذا التصور عن الشعر ونشأته الأولى، وقد
كنت وما أزال أحمل أصداء من ذلك الجرس الغائم الذي رنّ في أرجاء روحي ذات يوم فأيقظني على
حقيقة أقرب إلى الوهم أو وهم يشبه الحقيقة .
كان صباحاً خريفياً لا ينسى، وكان يومي الأول في المدرسة الابتدائية، كل شيء كان يضج بالتردد
والانفعالات، لم يكن في السماء الباردة إلى غيوم الخريف الأولى ولم يكن يملأ القلب غير ارتباك
غامض . في ذلك لا يوم وقفت، ولأول مرة، وجهاً لوجه أمام ذلك السؤال المحير: ما الشعر؟
وقد بدا كل شيء جديداً عليّ في ذلك اليوم الخريفي. كنت أحاول، قدر استطاعتي، أن أنتزع نفسي من
أجواء قريتي البعيدة مثل نجم شريد. كان أن أنسى نهراً من أغاني الأمهات يربطني إلى ذلك التراب
الحميم، ويضعف في قدرتي على التكيف مع أزقة المدينة وشراسة صبيانها، وضجة مقاهيها، وما إن رنّ
جرس المدرسة يدعونا إلى الاصطفاف الصباحي حتى تملكني إحساس مربك بأنني أتورط، لحظة بعد
لحظة، في عالم جديد عليّ، وبأن العودة إلى نجمتي الشريدة، قد أصبح منذ تلك اللحظة، حلماً عصياً على
التحقيق تماماً .
كان الخريف يغمر ساحة المدرسة بالبرد والطفولة القلقة، وكانت قشعريرة من نوع خاص تغمرنا
جميعاً، الأطفال والجدران وأنا، هي قشعريرة الفضول والتهيب اللذين يبعثهما فينا اليوم الأول للدراسة
عادة، كان ذلك اليوم الأول للدراسة عادة، كان ذلك اليوم يضعني أمام ذات تحاول أن تتسلق تلال
طفولتها البيضاء لتطل على ما ورائها من ليل، أو خرافات، أو أسئلة مبكرة .
حين تدافعنا، هائجين كان كل واحد منا يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في ذلك الطابور الصباحي، ولم يكن
يخطر ببال أحد منا كيف سيكون شكل ذلك اليوم: كنا نصنع من أجسادنا المتراصة جدراناً من القلوب
المرتبكة، وكان كل منا يصغي إلى قلب صاحبه ويكاد يشم رائحة مخاوفه الصغيرة . هدأت الضجة فجأة
حين نودي على أحد التلاميذ من الصفوف المتقدمة ليقرأ قصيدة أمام زملائه: حركة غامضة سرت بين
القلوب والجدران وأشجار الساحة، همهمة وإيماءات وعبث طفولي. كانت القصيدة لواحد من معلمي
المدرسة آنذاك، وكان في تلك اللحظة مراقباً للطابور الصباحي الهائج، ولا أدري لحظتها أكان متباهياً
بعصاه أم بقصيدته.. أحسست حينئذ أن أشجار الطريق كانت تنحني من وراء السياج لتشم جدران
المدرسة وأحجارها، ولتشبع من ذلك النسيم الخريفي المفعم برائحة الشعر والغيم والطفولة.
لم أفهم الكثير من قصيدة الأستاذ خطاب العبيدي، ملك الاصطفاف في تلك اللحظة ؛ فقد هيمنت عليّ
فجأة دهشة غامرة اقتلعتني من بين الأجساد المتراصة وكأن هواء كونياً أذابني في ثناياه ونثرني بين
غباره وطيوره وأحجار طرقاته. كان شيء ما، عصي على التحديد: غيمة، أو أغنية، أو طائر خرافي
يمسك بي من قلبي المنتفض ويحلق عالياً لأطل على ذلك العالم من شرفة نائية كالأساطير لا يطالها
البشر ولا تحيط بها عيونهم .
قبل تلك اللحظة ما كنت أصدق أن في الإمكان أن أرى بعيني هاتين شاعراً من لحم ودم، يتمشى خارج
مخيلتي، أعني على الأرض وبين الناس؛ لأنني لم أكن أعتقد أن الشعر يمكن أن يكتبه بشر عاديون، كنت
أظنه كلاماً أثيرياً أو نعمة من نعم الخيال، كلاماً مصفى لم يمسسه بشر من قبل، يهطل علينا فجأة وكأنه
يتطاير من تصادم غيمتين طريتين . إنه أجمل وأرقى من أن يدعيه إنسان بذاته، إنسان مثلنا، يأكل
ويشرب، ويتثاءب ويغتاب الآخري؛ فالقصيدة تشرق من شفتين غائمتين بالبهجة أو الأسى، أما الشتيمة فلا
تخرج إلا من كهف أو كمين أو هاوية .
وطوال ذلك الطابور الصباحي وأنا غائب عن نفسي، أحسست أن فضاء المدرسة كله كان مفعماً برائحة
خاصة : أشرعة تمتلىء بالريح، وحقول تغسلها أمطار الليل، وغدران تحف بها الطيور الفرحة من كل
صوب. وكان لي، وسط ذلك كله، طيوري الخاصة أيضاً؛ لقد كنت أتمنى أن أرى نفسي ذا يوم محوراً
لمشهد صباحي كهذا، حيث رائحة الصباح تملأ روحي وأنا أخطو بين التلاميذ مزهواً لا بعصاي بل
بقصيدتي..
كم طويل هو الزمن الذي لا يزال ممتداً بين ذلك الصباح الخريفي، وهذه اللحظة الملتهبة بالذكريات ..
نهر من العشب والانفعالات والرذاذ يمتدّ بين خريفين: بين قلب كان عامراً بالجمر والأسئلة وقلب أخذ
يعلوه الشيب ومع ذلك، فلا يزال ذلك السؤال القديم يتجدد كل لحظة:
[ALIGN=CENTER]ما الشعر؟[/ALIGN]
=========================
لم أجد في نفسي القدرة على الرد على كاتب الموضوع على العلاق ..
فأحببت أن أنقلها لكم ..
لعلي أجد لديكم مايجيب تساؤلاتي ,,
وأسئلة العلاق .. !!