للبحر وجه آخر

كان يجلس في مقعده في مقدمة الباص .. ينظر من النافذة متأملاً حركة الناس والسيارات في الشارع ‏المزدحم .. الجو حار .. والشمس مسمرة في وسط السماء ، تصب لهيبها على الرؤوس ..‏
وضع العكازين المعدنيين بجانبه أسفل المقعد ، ونظر إلى ساعته .. انها الثانية والنصف .. بقي مقعدان ‏فارغان فقط لكن الباص لن يتحرك قبل الساعة الثالثة . شعر بشيء من النشوة وهو يفكر بالبحر .. ‏تنفس ملء رئتيه وأغمض عينيه كي يسمح للصور بان ترتسم على جدران مخيلته ..‏
البحر .. وأخيراً ..!! أخيراً سيجلس على شاطئ البحر ، على حافة المياه .. سيستمع إلى صوته ‏ووشوشاته الحالمة للرمال .. إلى عبث الأمواج الخفيفة وهي تعابث الشاطئ كصبية مدللة .. تقترب ‏قليلاً لتبتعد مرة أخرى ..‏
آه كم يشتاق للبحر ..! المرة الأخيرة التي رآه فيها كانت قبل أكثر من سبعة أعوام .. هناك في ‏بيروت ..!‏
أخذت الصور والذكريات تتتابع كشريط سينمائي .. البحر هو مخرجه ومؤلفه .. وممثله الوحيد ..!! ‏هناك كان يجلس ساعات طويلة على الشاطئ .. وحيداً ينظر إلى الأفق البعيد البعيد .. محاولاً ‏اكتشاف نهاية البحر .. أو بدايته .. ثم يكتب قصائده وكانه يستخرجها من أعماق البحر .. من ‏رائحته .. هدوئه وجنونه .. من صوت النوارس وهي تلهو هنا وهناك .. هل في العقبة نوارس ..؟!..‏
انتبه إلى صوت حركة بجانبه ، التفت .. كانت تهم بالجلوس .. أسرع وتناول أوراقه وكتبه وتمتم : ‏
‏- آسف .. تفضلي .. ‏
قالت وهي تجلس : - شكراً . نظر إلى ساعته .. انها الثالثة ، والباص يتحرك ببطء .. أسند رأسه ‏على مسند المقعد ونظر من النافذة .. هل ستتاح له الفرصة في العقبة ليجلس وحيداً على الشاطئ ..؟ ‏هل سيتمكن من الجلوس مع البحر على انفراد ؟! هناك الكثير مما سيقوله للبحر .. والكثير مما ‏سيسمعه منه ..وها هي الأوراق جاهزة لتسجيل أغنيات البحر ..‏
من مكبرات الصوت ينطلق صوت فيروز ..! أغمض عينيه وشعر بقلبه يبتسم .. كان يشعر وكانه في ‏طريقه إلى موعد مع حبيبة طال اشتياقه إليها .. تناول كتاباً .. مجموعته الشعرية الأخيرة ( للبحر وجه ‏آخر ) .. فتح صفحة وقرأ : ‏
يا بحر صمتك طال ..‏
فانطق ..!‏
وابعث الأمواج تعلو ..‏
فوق أكوام الحجارة والزبد ..!‏
قلب عدة صفحات وقرأ : تعالي نلون هذا المطر..‏
تعالي نلملم .. أحلامنا
معاً نرمم قوس قزح ..!‏
هم بإغلاق الكتاب .. التفت نحوها ، كانت تقرأ معه .. همس كالمعتذر :‏
‏- عفواً .. هل تودين القراءة ؟‏
ابتسمت بارتباك .. ثم مدت يدها وتناولت الكتاب .. نظر إليها وهي تقرأ كانت انفعالات القصيدة ‏تنطبع على وجهها بوضوح ، كما تنعكس صورة صفصافة على سطح بحيرة هادئة .. شعر بالغبطة .. ‏جميل ان يرى الشاعر عن قرب أثر قصائده على وجه جميل ..! بعد ان أغلقت الكتاب سألها :‏
‏- هل تحبين الشعر ؟‏
‏- جداً ‏
شعر بشيء من الفرح .. تساءل : - وهل أعجبتك القصائد ؟‏
صمتت قليلاً ثم قالت : - لقد نقلتني إلى عالم آخر .. عالم لم يعد موجوداً ..!‏
شعر بما يشبه الخيبة ..‏
‏- هل تقصدين انها غير واقعية ؟ ..‏
‏-لا .. العالم هو الذي لم يعد واقعياً .. أما هذه القصائد فهي ما تبقى من انسانية ما زالت موجودة ‏في أرواح كائنات أوشكت على الانقراض .. هم الشعراء ..!‏
كان يتابع حديثها وهي تتحدث باندفاع وحرارة .. فوجئ بجرأتها وحماسها .. شعر بالفرح .. قال ‏باسماً :‏
‏- انت شاعرة .. ! ابتسمت وقالت : - شكراً .. لكنني لا أكتب الشعر .. انا أعيشه فقط ! صمتت ‏قليلاً ثم تابعت : - انت طبعاً تحب الشعر .. وإلا لما حملت هذا الديوان معك ..!‏
ابتسم وقال : - وانا أعيش الشعر أيضاً ..‏
ابتسما معاً ..شعر بانها قريبة .. هناك شيء مشترك بينهما ، شيء كبير .. هو الشعر ..‏
‏- هل تحبين البحر ؟ صمتت قليلاً ثم قالت : - أحبه وأخافه معاً ! .. البحر صورة عن الحياة .. ‏الحلم والواقع .. الهدوء والجنون ..! ‏
شعر بانها فتاة استثنائية .. نظر إليها باهتمام كبير .. ابتسمت بخجل وقالت : ‏
‏- انا أتكلم كثيراً ؟! ثم تابعت فجأة : - هل تعمل في العقبة ؟‏
فوجئ بالسؤال ، لكنه أجاب : - لا .. انا ذاهب في إجازة .. وانت ؟‏
‏- انا أعيش هناك .‏
هذا يفسر صوت البحر المنطلق مع صوتها .. وهذه الأمواج التي تتقافز في العينين الصافيتين ..‏
تساءل :- إذن انت عائدة من إجازة ؟‏
‏- انا طالبة في الجامعة .. وأعود إلى العقبة كل أسبوعين .. لا أطيق الابتعاد عن البحر أكثر من ذلك ‏‏.. ! ‏
‏- وماذا تدرسين ؟ ‏
‏- الأدب العربي والفلسفة .. وتابعت : وانت .. ماذا تعمل ؟ فكر قليلاً وأشار إلى الأوراق : - ‏أكتب ..!‏
‏- صحفي ؟‏
‏- أكتب في بعض الصحف والمجلات .. ونشرت بعض الكتب ..‏
‏- إذن لا بد ان يكون اسمك مشهوراً .. عفواً من انت ؟! ‏
أخبرها باسمه .. فتحت عينيها بدهشة ، تناولت الديوان .. نظرت إلى الاسم على الغلاف .. قالت ‏بذهول :‏
‏- هل انت ؟! .. يا الهي ..! فوجئ بكل هذه الدهشة .. ابتسم وقال :‏
‏- ماذا .. هل خيبت أملك ؟ ‏
‏- انا أقرأ كل أعمالك .. وأحتفظ بمعظم كتبك .. يا الهي .. اعتذر عن ثرثرتي السخيفة..! صمتت ‏قليلاً ثم تابعت : - كنت أتصورك أكبر سناً..! إبتسم وقال : - شكراً .. هذا إطراء كبير ..‏
بدت منفعلة ومرتبكة ، ندم .. تمنى لو أخبرها أي اسم آخر ..‏
الغروب ينشر عباءته الحمراء على الأفق .. ومعظم الركاب نائمون أو يغمضون عيونهم .. صوت ‏فيروز يعطر الجو بعطر أزرق حالم كلون البحر ..‏
‏- هل تحبين صوت فيروز ؟ ‏
لم تجب ، نظر إليها .. كانت تغمض عينيها وقد أسندت رأسها على الكرسي . ظن انها نائمة .. ‏أغمض عينيه هو الآخر لكنه سمع صوتها : - جداً .. وانت ؟‏
‏- هل تعرفين ؟ هناك أشياء كثيرة مشتركة بيننا ..!!‏
صمتا .. سمحا لصوت فيروز ان يتغلغل في أعماق الروح ..‏
البحر يقترب منه .. يقفز نحوه ، نوارس كثيرة تحيط به ، وهو يركض.. يركض ..! كما كان قبل ‏سبع سنوات !‏
انتبه ، كان رأسها يستند على كتفه .. نظر إليها ، كانت نائمة مثل طفلة صغيرة .. اهتز الباص فجأة ‏‏.. انتبهت فزعة ..همست : - آسفة ..‏
إبتسم ولم يقل شيئاً.. شعر بانها جميلة وقريبة ، قال : - سأكتب عنك قصيدة ! ‏
ابتسمت بفرح وقالت : - هل سأراك في العقبة ؟‏
‏- ارجو ذلك .. ستجدينني على الشاطئ ..!‏
‏- أتمنى ان أراك وانت تكتب ..ان أرى ميلاد قصيدة ! ابتسمت وتابعت : - وقد نركض معاً على ‏الرمال ..!‏
تحسس قدميه .. يبدو انها لم تلاحظ العكازين ، ابتسم ولم يجب ..‏
كان الباص على وشك الوصول .. قال لها : - كانت رحلة جميلة معك ..‏
كان يأمل بان تنتهي الرحلة بذكرى جميلة .. ان تنزل من الباص قبله ، لكن الباص وصل إلى المحطة ‏الأخيرة وهي ما زالت جالسة بجانبه .. الركاب بدأوا يستعدون للنزول .. وقفت ، نظرت إليه ..‏
‏- الن تنزل هنا ؟‏
‏- بلى .. سانزل الان . مد يده وتناول العكازين .. نظرت إليه بدهشة .. بذهول .. عادت ‏وجلست ..‏
‏- آسفة .. لم الاحظ ..!‏
‏- أبداً .. انا أيضاً أتمنى ان اركض معك على الرمال ..!‏
وقفت .. مدت يدها إليه ، ساعدته على الوقوف ، حملت أوراقه .. ونزلا معاً من الحافلة .. نظر ‏إليها .. كانت حزينة .. شعر بالرصاص يثقل صدره ..‏
‏- سأحضر لك سيارة .. أين تقيم ؟‏
‏- لا تتعبي نفسك .. سأتدبر أمري .. ‏
أوقفت سيارة وجلست بجانبه .. عند باب الفندق ودعته وذهبت .. وفي غرفته جلس على السرير .. ‏تذكر الرحلة بتفاصيلها .. ابتسم بمرارة وتمتم : - هو الحزن .. صديقي الوفي ..!‏
في اليوم التالي كان البحر جميلاً وهادئاً .. وكان يجلس على شاطئه بسكون مغمضاً عينيه .. يستمع ‏إلى تراتيله الغامضة .. ‏
عندما فتح عينيه وجدها أمامه .. تتأمله بصمت ، قالت وملامحها جادة تماماً :‏
‏- لم انم هذه الليلة ..! وتابعت : أحب ان أعرفك أكثر . وصمتت .. نظر إليها .. قالت فجأة :‏
‏- منذ متى ؟ نظر إلى قدميه .. ثم إلى عينيها ..‏
‏- منذ سبع سنوات .. ‏
‏- حادث ؟‏
‏- تقريباً ..كنت في بيروت .. وكان الحصار والرصاص ..!‏
صمت ونظر إلى الأفق .. سمع صوتها بعد قليل :‏
‏- كنت مقاتلاً ؟‏
‏- كنت أدافع عن حلمي .. وعن قصائدي ! ‏
عندما نظر إليها بعد فترة .. كانت دمعتان تسيلان على خديها .. ابتسمت فجأة وقالت :‏
‏- قلت لي انك ستكتب عني قصيدة !‏
مد يده نحوها .. أمسك بيدها .. كان البحر جميلاً كما لم يكن من قبل .. ونوارس كثيرة .. ‏وأشرعة ملونة كانت تسافر قادمة من كل الاتجاهات .. همس :‏
‏- هل تسمعين صوت البحر ؟ .. انه يغني الان .. لقد بدأ ينشد القصيدة …!‏